رسالة «14 آذار» دعما للمحكمة الدولية ومشروع «الدولة»

TT

الرسالة كالشمس ساطعة.. ما عادت تحتاج إلى برهان.

فبرغم مرور أربع سنوات على جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه – التي تلتها سلسلة جرائم اغتيال أخرى لطمسها وتجاوزها - ورغم انقلاب «دجّالي التحرير» مِمّن زايدوا طويلا على العاملين الحقيقيين من أجل الحرية والسيادة والاستقلال، ورغم استخدام السلاح المفترض أنه مرصود للمقاومة والتحرير في غير مكانه.. ليتحوّل سيفا مسلطا للابتزاز السياسي والإرهاب الأمني... رغم كل ذلك زحف مئات الألوف إلى ساحة الشهداء، ساحة الحريّة، في قلب بيروت لتأكيد سلسلة من الثوابت. ولتأكيد مجموعة من الفوارق أيضا.

فهنا، في معسكر «14 آذار»، مشروع تعايش يحترم التنوّع ويتقبّل الحق بالاختلاف تحت سقف مفهوم «الدولة» المدنية العادلة ذات القرار السياسي والتنموي المستقل.

بينما في المعسكر الآخر.. مشروع من نوع آخر، يؤجّل «الدولة» إلى ما لا نهاية، وهذا إذا كان حقا يعترف بها، أو تتفق مكّوناته على حدودها وولائها وشكل نظامها وثقافتها السياسية.

هنا في معسكر «14 آذار»، إيمان مطلق بأن السلاح يجب أن «يتبع» السياسة الجامعة ويخدمها، مما يعني أنه يجب أن يكون جزءا لا يتجزأ من القرار الشرعي المعبّر عن رغبات أكثرية اللبنانيين من دون أن يتجاهل مخاوف أي منهم.

أما في المعسكر الآخر، في غياب أي رغبة حقيقية في قيام دولة مدنية يتساوى فيها كل اللبنانيين في الحقوق والواجبات والمسؤوليات، غدا السلاح غايةً لا وسيلة، وصار من الواجب استخدامه حتى ضد الأبرياء لضمان بقائه أداة تعطيل وتأجيل وإملاء وابتزاز.

هنا في معسكر «14 آذار»، خلقت عدالة القضية - وكذلك «قضية العدالة» - مناخات وقناعات راسخة أتاحت للمؤمنين بها، المرة تلو المرة، طيلة السنوات الأربع الماضية، تجاوز أخطاء الممارسة.. رغم تكرارها وعلى مختلف المستويات، بما فيها القيادية. في المقابل، عند المعسكر الآخر، القرار مركزي و«ضابط الإيقاع» و«موزّع الأدوار» واحد.. ولو تكاثرت أسماء التنظيمات وتعدّدت ألوان الأعلام والرايات. وإذا ما ارتكبت أخطاء يتعذّر حتى على رأس الهرم الاعتراف بالخطأ – بالرغم من «لو كنت أعلم» – لأن القرار الاستراتيجي الحقيقي آت من خارج الحدود غير المرسّمة، بل، والممنوع ترسيمها.

هنا في معسكر «14 آذار» تلاقت قوى شعبية كانت بينها خصومات وعداوات لأنها اكتشفت، ربما متأخرة بعض الشيء، أن ما يجمعها أكثر بكثير مما فرّقها طويلا. وبالتالي، أدركت أن الضمانة الوحيدة للأقليات الدينية والطائفية وحتى العرقيّة والسياسية هي «دولة المؤسسات».. ولا شيء غيرها.

ولكن في المعسكر الآخر، نسج «تحالف تكتيكي» غريب عجيب بين أصحاب مشاريع لا رابط منطقيا بينها، ولا قاسم مشتركا إلا التصدّي لمشروع «الدولة». وإلا فماذا يجمع بين حزب ديني مرتبط عضويا بدولة يحكمها نظام ديني له فقهه الخاص، وحركة طائفية لا دينية استفادت من تحالفاتها الإقليمية في كل العهود منذ مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي، و«تيار» شخصاني اكتشف زعيمه الماروني السبعيني أخيرا أن مار مارون.. سوري، كما اكتشف فجأة - وهو القائد السابق للجيش الشرعي - محاسن التعايش بين الجيش وما كان يعتبره حتى الأمس القريب ميليشيا مسلحة تخدم الإرهاب (!)، وأحزاب دوغماتية علمانية تحاضر بالماركسية والقومية والثورية في ظل التبرّك بأنظمة حكم وراثية عائلية؟

هنا في معسكر «14 آذار» اقتناع بأن لا فرصة لبناء الدولة من دون إحقاق الحق والعدل، وردع من يحاور المنطق بالرصاص، ويحاول إجهاض المواطَنة بالسيارات المفخخة، وتدمير مقومات التعايش بالاجتياحات المسلحة. وبالتالي، جاء مئات الألوف إلى ساحة الحرية بالأمس لتأكيد دعمهم لإنشاء المحكمة الدولية ومباركتهم مباشرتها عملها اعتبارا من مطلع الشهر المقبل.

وبطبيعة الحال، في المعسكر الآخر، هناك ليس فقط من يرفض المحكمة والمحاكمة، بل سعى ويسعى لنسفها من أساسها بشتى الوسائل.. من شلّ الحكومة.. وصولا إلى تأجيج الفتنة.

وأخيرا، هنا في معسكر «14 آذار» وجّهت الجماهير بمشاركتها الضخمة رسالة انسجام وتلاحم شعبي قاطع إلى قادة أحزابها على أبواب الانتخابات البرلمانية المقرّرة يوم 7 يونيو (حزيران) المقبل. وبات لزاما على هؤلاء احترام الرسالة والتعجيل بالبناء على زخم هذا التلاحم.

فالقادة يدركون جيدا حقيقة التحدّي، وهم محقّون في وصف الانتخابات المقبلة بأنها «مفصلية»، كما أنهم محقّون في الإصرار على أنه إذا تمكّن المعسكر الآخر من الفوز فيجب أن يحكم بمفرده.

جماهير «14 آذار»، بعد مرور أربع سنوات على الجرح العميق، ما زالت تعيش دلالاته السياسية. وقادة «14 آذار» يفهمون أن عليهم ألا يكونوا «شهود زور» يغطّون حكم المعسكر الآخر إذا فاز. فالحكم ليس جمعية خيريّة ومسؤولياته ليست صَدَقات توزّع على هذا وذاك، وبالتالي، إذا كان هذا المعسكر مصرّا على تخوينهم وفي الوقت نفسه استخدام الشعب اللبناني كله دروعا بشرية في معاركه دعما لحلفائه الإقليميين.. فلماذا لا يتحمل تبعات سياساته ومواقفه؟