الانتماء الأبدي

TT

في كل مرة أغادر فيها موطني، أحرص على إلقاء نظرة وداع من نافذة الطائرة، وأظل ألاحق مبانيه حتى تختفي كليا عن ناظري. أحس لحظتها بمسحة من الحزن تغلّف فؤادي، وألم يعتصر قلبي، لفراق الأرض التي شهدت مرتع صباي، والتي فيها الأهل والأحباب والأصحاب، وتقفز أحياناً في خاطري تساؤلات حائرة، عن الأفراد الذين تجبرهم أنظمة بلادهم على الرحيل عن ديارهم، وتسلبهم هويتهم، وتتركهم في العراء من دون مأوى أو كساء، حتى تلتهم ذئاب الطريق الجائعة أجسادهم، وكل ذنبهم أنهم رفعوا أصواتهم من أجل صلاح مجتمعاتهم، أو سطّروا بالقلم ما يرونه مفيداً لأوطانهم. لا أدري كيف يتحمل الإنسان العيش بعيداً عن وطنه؟! كيف يغالب الشوق، ويقاوم رياح الحنين؟! كيف يتحكم في إحساسه الغامر لاستنشاق عبق وطنه، وضم حفنة من ترابه بين يديه؟! وعندما أتابع ما يبثه التلفاز من المشاهد المأساوية التي يقاسيها الشعب الفلسطيني على يد العدو الصهيوني، وكيف يقابل هذا التنكيل بالصمود والمقاومة، أعي تماماً الأثمان الغالية التي يقدمها الآباء والأمهات في سبيل تحرير وطنهم، الذي يستحق الفداء والتضحية، وأدرك أن الحق سيتغلب على القوة في نهاية المطاف مهما طال الأمر، ما دام الإنسان متشبثاً بحبه الكبير، الذي لا يضاهيه حب آخر.

إن الهوية حق ملزم للإنسان في كل زمان ومكان، لكنها في العديد من دول العالم الثالث اضحت مهدورة، مثلها مثل معظم المبادئ العليا التي غدت في خبر كان، الحريات ألقت بنفسها في اليم، بعد أن يئست من القهر الذي طالها، حتى قررت الانتحار، وبات من الصعب انتشال رفاتها، وإعادتها للحياة من جديد إلا بمعجزة خارقة. والعدل أضحى مثل الراقصة التي تُعرّي جسدها كل ليلة، وتهز أردافها لتخدّر العقول الشبقة، وتجمع حولها أكبر قدر من الأفاقين. وانفضت الجموع عن ساحات القضاء بعد ازدياد الغمز واللمز حولها، واتهامها بأنها لم تعد تقضي بما يمليه عليها ضميرها، وتحولت إلى توابع للسلطات التنفيذية، تسعى لارضائها، حتى امتلأت الزنازين بالمساجين المظلومين، وأضحت لجميع القيم والمثل سعر، تباع في الاسواق، مباح لكل امرئ شراؤها ما دام يحمل في جيبه قيمتها، حتى عاد الرق من جديد، في عصر يقال إنه عصر رفاهية الإنسان. أي رفاهية هذه التي تنطمس فيها الحريات، وتعدم الحقوق، ويُعلق في المشانق أصحاب الفكر المستنير؟! هل من الواجب أن يتنازل الإنسان عن حريته في القول، مقابل الاحتفاظ بهويته، أم أنها نوع من المقايضة الجائرة؟! هل من حق الأنظمة طرد معارضيها السياسيين من ديارهم، أو رميهم في غياهب السجون، وممارسة أبشع انواع التعذيب عليهم ليتراجعوا عن مواقفهم؟! هل تعني المطالبة بالتغيير، التشكيك في وطنية هؤلاء المعارضين، وجز أعناقهم، كونهم ينادون بأهداف إصلاحية في مجتمعاتهم، من خلال الأحزاب الدستورية في بلادهم؟! هناك العديد من المعارضين انشقوا عن بلادهم، وكانوا بالفعل عملاء لبلدان معادية، وهناك من يعارض رغبة في الحصول على منصب رفيع، أو مكانة مميزة في أوطانهم، وهؤلاء انتهازيون يسعون لتحقيق مآربهم الشخصية برفع شعار الوطنية، وهؤلاء من الواجب محاكمتهم، كون الوطن اسمى من أن يتعرض للمساومات الخسيسة.

ولكن، هناك أيضا معارضون شرفاء، دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم النبيلة، ووطنيتهم التي لا تشوبها شائبة.

هل الحريات تختلف أهدافها من بلد لآخر، أم أنها تولد من رحم أم واحدة، لكن ألوان أثوابها وأصحابها تتباين من بقعة لأخرى، ومن بلد لآخر؟! في تركيا أثارت نائبة في البرلمان قضية تعذيب السجناء السياسيين، ومعاملتهم كمجرمين وأصحاب سوابق، وقد تم عزلها بحجة انها قامت بتشويه صورة وطنها دولياً. وفي العراق يتم قتل آلاف المعارضين يومياً، وطرد أدبائه وملاحقتهم في الخارج بسحب هوياتهم. ومع هذا ظهرت بوادر مشرقة، وتسلل ضوء خافت يوحي بفسحة من الأمل، فقد نشرت الصحف خبر إعادة الجنسية البحرينية للمعارض البحريني منصور الجمري، بأمر من أمير البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، بجانب 49 شخصاً كان قد تم في الماضي سحب جنسياتهم. وفي المغرب صرح الملك محمد السادس بإطلاق سراح جميع المساجين السياسيين، وتأكيده على إحياء التعددية الحزبية، من خلال انتخابات تشريعية حقيقية. إن ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، أقر بأحقية الفرد في الاحتفاظ بجنسيته والتمتع بها، بصرف النظر عن مواقفه السياسية أو الإنسانية، وفي ممارسة حقه الطبيعي في التعبير عن آرائه بحرية، كون الحريات هي الطريق الأمثل لتذوق طعم التجارب الحياتية، وإلى تحقيق الرفاهية للمواطن في نهاية المطاف.

ليتحدث الأدباء عنها، وليتغزل بها الشعراء، وليتغنى بها الفنانون، فدروس التاريخ أثبتت أن الكلمة النقية هي أساس تقدم الشعوب. ووأد الحريات وتكميم الأفواه، وسلب الحقوق، وانعدام العدل، لن تخلّف إلا الدمار، وستخلق طريقاً محفوفاً بالأهوال، تدفن فيه تباعاً كل المبادئ العليا للمجتمع، لحظتها قد يصرخ الجميع.. أين المفر؟! لكن.. تُرى، هل من مجيب؟!