الحب التركي العربي

TT

غادر آخر الأتراك الأراضي العربية منذ نحو قرن، فكانت نهاية حزينة لإمبراطورية عظيمة عانت من التفكك والفساد حتى سقطت بيد أبنائها الذين أعلنوا الجمهورية في العقد الثاني من القرن الماضي على يد كمال أتاتورك. ولا يزال يذكر الأتراك في كتب التاريخ العربية سلبيا كقوة احتلال غاشمة، رغم رايتهم الإسلامية، وحرصهم على الواجبات الدينية. فقد أرهق الأتراك العرب بإتاواتهم، وسوء إدارتهم، وكثرة حروبهم، وبطشهم العسكري. على الأقل سجل ذلك الانطباع في الفصل الأخير من الحكم العثماني الذي كان سيئا حتى للمواطنين الأتراك الذين ساندوا الثورة الكمالية.

ومنذ ذلك الحين ساد الجفاء بين الأتراك والعرب حتى استيقظ الطرفان في مناسبتين مفاجئتين. الأولى ارتفعت شعبية الأتراك بسبب مسلسل غرامي تركي عرضه تلفزيون الـ«إم بي سي» في الصيف الماضي، وحرك في العرب شيئا جديدا من الحب للجار الشمالي الذي طرد في الماضي بسبب قسوته. والمرة الثانية بعد التضامن التركي مع الفلسطينيين في أحداث غزة. واحتفي به العرب حيث أصبحت تركيا في نظرهم فجأة دولة إسلامية عظيمة، بعد أن كانت ترمى بالعلمانية، ورأى فيها الإسلاميون حليفا متجاهلين أنها حليف لإسرائيل من جانب آخر.

هذا الغرام المتبادل الذي أوقده حماس رئيس الوزراء نجيب أردوغان واستجاب له الأصوليون سريعا حيث عقدوا مؤتمرهم في تركيا. الحماس جعل العديد من المحللين العرب يعلنون أن تركيا غيرت بوصلتها من القارة الأوروبية إلى الجنوب العربي، رأي متعجل مبني على حوادث قليلة، وتحديدا مناسبتين الأولى والأهم موقف تركيا الايجابي في أزمة غزة، والثانية الانسحاب المسرحي لأردوغان في مؤتمر دافوس احتجاجا على كلام قاله رئيس إسرائيل شيمون بيريز.

وكما وقع البعض في غرام المسلسلات التركية الجديدة، المدبلجة سوريا، هام البعض أيضا في الموقف التركي السياسي المعادي لإسرائيل والموالي للعرب. وقد لا يكون موقف رئيس الوزراء التركي حقيقيا أكثر من حقيقة وجود شخصية مهند، بطل مسلسل نور التلفزيوني. فهناك حقائق عديدة تجعل الموقف الحقيقي لأنقره، لا الموقف الدعائي، مغلولا بجملة ظروف. فأكبر مداخيل تركيا الخارجية لا يوجد فيها طرف عربي، فهي تبيع وتشتري على التوالي مع ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وروسيا وإسبانيا، وتركيا هي الطرف الضعيف لأنها لا تصدر موادا أساسية مثل البترول. وإذا كان يظن البعض أنه يمكن تعويض الأتراك بالتجارة البينية مع العرب فإن العرب أفقر من تعويض الأتراك عن اليوروات الأوروبية، فميزانية الحكومة التركية تبلغ مائة وسبعين مليار دولار، في حين لا تصل مصاريف سورية إلى سبعة مليارات فقط. الأمر الآخر تركيا عضو مهم في حلف الناتو، ولعضويتها التزامات أمنية وعسكرية، تجعل موقفها الحقيقي لا يماثل موقفها الفعلي، فهي تجري مناورات عسكرية مع إسرائيل في نفس الوقت الذي كانت تجري فيه مناورات صداقة كلامية مع العرب. موقف ليس خاصا بالأتراك، فالعرب أنفسهم لا يقلون نفاقا، حيث إن بعضهم يتبني سياسة علنية معادية وأخرى ودية بعيدة عن الأنظار.

رغم ذلك فإن دخول الأتراك على خط النزاعات العربية قد يكون نعمة، وقد يصبح نقمة. فإن التزم الأتراك موقفا مؤيدا للقضية العربية فإنهم سيضيفون إليها ثقلا مهما نحتاج إليه في الأيام التفاوضية المقبلة، أما إن كان مجرد انضمام إلى حلف عربي ضد حلف عربي آخر فإننا سنرى فيه عودة للسياسة التركية المرفوضة قديما التي تسببت في طردهم، وأسوأ من ذلك لو كان موقفا انتهازيا، مثل موقف إيران، للمساومة مع الأوروبيين على عضويتهم في الاتحاد، هنا كل ما نقوله أعان الله العرب على كثرة الانتهازيين.

[email protected]