الثأر الخميني.. والثأر الحريري

TT

مصادفة لافتة وهي أنه في يوم إحياء اللبنانيين الذكرى الرابعة لشهيدهم الذي يفتقده الاستنهاض الذي لم يكتمل الرئيس رفيق الحريري، يختار الرئيس بشَّار الأسد اليوم نفسه (السبت 14 فبراير/ شباط 2009) ليكون يوم صلاة الاستسقاء في كل المحافظات السورية تقام فيه بعد صلاة الظهر.

الصلاة أمر واجب وضروري في ساعة الشدة. ولقد اعتدنا عليها تقام في كل بلد إسلامي تصيبه موجة جفاف، فينخفض تبعا لذلك مردود الزرْع ويتزامن معه انخفاض مردود الضرْع. وعندما يحدث ذلك في ظروف كتلك التي يعيشها العالم عموما وبالذات سورية التي تواجه أسوأ موجة جفاف منذ أربعة عقود، وينخفض إنتاج القمح الموْرِد الرئيسي للبلاد من معدل خمسة ملايين طن إلى مليونيْ طن في العام 2008، فهذا يعني أن ما هو أكثر سوءاً قد يحدث، وفي هذه الحال وحيث إن صناديق النجدات العربية التقليدية مقفلة بعض الشيء لدواع كثيرة ومن دون أن تسد الحاجة الصناديق القَطَرية والإيرانية، فإن التوجه إلى الله سبحانه وتعالى من خلال صلاة الاستسقاء كي لا يستمر انحباس المطر، فتخْضر السهول وتحدث السيول وترتوي القطعان وتفيض الأنهار، يبقى هو السبيل الوحيد.

لا ندري ما إذا كان الرئيس بشَّار الذي أصدر الأمر إلى وزارة الأوقاف لإقامة الصلاة حدد في الوقت نفسه اليوم الذي تقام فيه، أم أن الوزير هو من اجتهد وحدد. وهكذا فإنه في الوقت الذي كان اللبنانيون بالألوف متجمهرين يتابعون كلمات خطباء مناسبة إحياء الذكرى، ويصلُّون ويقرأون الفاتحة على روح شهيدهم ورفاقه من نواب وسياسيين وإعلاميين وعسكريين، كان السوريون بعشرات الألوف يتضرعون إلى رب العالمين لكي ينعم عليهم بماء السماء.

إلى ذلك، يتقارب الموعد المحدد لبدء المحكمة الدولية أعمالها مع الذكرى الرابعة لاستشهاد الرئيس الحريري ومع الذكرى الثلاثين للثورة الإيرانية. ونجد أنفسنا هنا نتأمل في حالتين من الثأر، واحدة حدثت يشكل الإمام الخميني الرمز لها. والثانية ستحدث بإنجاز المحكمة الدولية مهمتها.

بالنسبة إلى الخميني، نشير إلى أن الإمام قرر في اللحظة التي بلغه فيها أن «السافاك» الشاهاني صفَّى له ابنه وقرة عينه مصطفى أن يثأر من الشاه محمد رضا بهلوي شخصياً، وبدأ منذ ذلك المصاب المفجع له يخطط للإطاحة بالنظام معتمداً على ورقة السلطة الدينية التي يملكها وتأثيرها على مفاصل المجتمع الإيراني، وبالذات مجتمع «البازار» وكذلك على الورقة المالية التي تجنيها المراجع الدينية بحكم الشرع. وهذه الورقة تبدو أحياناً أكثر تأثيراً من ورقة الحماية التي يؤمِّنها الجيش للنظام هذا في حال كان ولاء المؤسسة العسكرية محسوماً ولا مجال للاختراقات التي تؤدي إلى انقلابات عسكرية.

لم يهدأ بال الإمام الخميني إلا بعدما أنجز ثلاثة أرباع ثأره ونجح في إسقاط الشاه من دون أن تنزعج أميركا التي كانت السند القوي له. لكن يبقى الربع الذي من شأنه إطفاء نار الغضب على قاتل ابنه قرة عينه مصطفى. ولقد تمثَّل الربع المتبقي في مطاردة الشاه المريض بغرض حرمانه حتى من مواراة جثمانه الثرى في إيران. ونتذكر هنا كيف أن المطاردة أثمرت إلى درجة أن الإدارة الأميركية لم تسمح للشاه حليفها التاريخي بالبقاء حتى للعلاج من السرطان الذي يفتك بجسمه، ثم تزايد عدد الأنظمة غير المرحِّبة بإيوائه إلى أن استضافتْه مصر الساداتية وأكرمته خير تكريم. وبعد وفاته تم دفْنه في مصر التي تحملت نتيجة ذلك في عهد الرئيس حسني مبارك قطيعة في العلاقات ما زالت مستمرة، وأخذت منحى التحرش المذهبي من جانب إيران وأعماقها اللبنانية والفلسطينية «الحماسية» بالحكم المصري.. وإلى درجة تخوينه أحياناً. والثأر على ما هو واضح مستمر حتى إشعار آخر.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن الثورة الإيرانية قامت في البداية على خلفية ثأر الوالد آية الله الخميني للابن مصطفى. وبعدما نجحت في إسقاط النظام البهلوي أسبغ عليها الحكم الجديد عقيدة ومشروعاً أسَّسا للثأر الآخر من الحكم الصدَّامي في العراق، وهو الثأر الذي أوجبت مقتضيات تحقيقه غض الطرْف الإيراني عن احتلال أميركا وبريطانيا للعراق، ما دام حقَّق لخلفاء الإمام الخميني إنجازاً طالما عجز الإمام عن تحقيقه ثم رحل وفي الروح رواسب مرارة القبول بوقْف الحرب وقوله الشهير في هذا الشأن إنه كمن يتجرع السم. كما أن الخلفاء بدورهم عجزوا عن إسقاط ذلك النظام وبدأوا في سبيل تحقيق غرضهم بناء القوة العسكرية ثم النووية على أساس أنهم بها وفي حال استمر النظام الصدَّامي يُخضعون العراق لإرادتهم. وجاءت المغامرة العدوانية من إدارة بوش الابن وحكومة طوني بلير تحول دون تحقيق المأرب الإيراني من دون أن يوقف الاحتلال الأميركي - البريطاني للعراق استعدادهم الذي بلغ حسب تأكيد كبارهم آية الله خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد والجنرالات أصحاب الشأن في الجيش والحرس الثوري الدرجة الأعلى من القدرة حتى أن عبارة «أصبحت إيران دولة عظمى» ترددت على ألْسنة البعض منهم.

هذا بالنسبة إلى الثأر الخميني. أما بالنسبة إلى ما يخص الرئيس رفيق الحريري، فإن الثأر له أخذ المنحى القانوني وبحيث إن المحكمة الدولية التي تشكلت لهذا الغرض بطلب من الحكومة اللبنانية الحريرية الهوى التي يترأسها فؤاد السنيورة أحد أقرب أصدقاء الحريري إلى أفكاره ورؤاه الاستنهاضية ومشروعه العمراني ستأخذ على عاتقها أمر الثأر الحريري. ومع أن القدرات المالية لورثة الحريري متوفرة وفي استطاعتهم الأخذ بالثأر عبْر وسائل غير مشروعة، فإن هؤلاء رأوا في المحكمة الدولية أنها الجهة التي تحدد الجناة وآمريهم استناداً إلى وثائق واعترافات وليس على قاعدة الظن أو المكايدة، فضلاً عن أن الثأر الشخصي يستنسخ ثأراً لاحقاً.

وعلى هذا الأساس، فإن خصوم رفيق الحريري من لبنانيين وغير لبنانيين غير محقين في مقارعتهم للمحكمة الدولية. وهم إذا أمعنوا التأمل في ظروف الثورة الإيرانية التي حلت ذكراها الثلاثين قبل أيام وكيف أن بدايتها ودوافعها كانت في الدرجة الأولى ثأرية، وفي تصميم الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله على الثأر من الذين اغتالوا كبار رموز المقاومة من عباس الموسوي إلى عماد مغنية وآخرين فضلاً عن استشهاد هادي حسن نصر الله، وتأملوا أيضاً في ما فعله الحزب القومي السوري الاجتماعي الحليف لكل من النظامين السوري والايراني كيف اغتال أحد عناصره رئيس وزراء لبنان الشهيد رياض الصلح على طريق المطار في العاصمة الأردنية، حيث كان في طريق العودة إلى بيروت من زيارة رسمية... إن هؤلاء لو أمعنوا لاعتبروا أن ورثة الحريري في شخص رمز استمرارية الحضور السياسي للعائلة النائب سعد الدين، هم في غاية المرونة بالمقارنة معهم، وذلك لأنهم سلَّموا أمرهم إلى الله وتركوا للمحكمة الدولية تحقق وتحاكم وتُصدر الأحكام مع التعهد بقبول أي أحكام تصدر عنها على نحو ما سمعناه من النائب سعد الدين الحريري الذي لم نتوقع وبالذات في ضوء أحاديث صحافية أجريت معه ومن بينها الحديث الأكثر تميزاً الذي أجراه زميلنا ثائر عباس، أن يخطو هذا الوريث بهذه السرعة ويصبح خلال أربع سنوات من فاجعته وفاجعة اللبنانيين بوالده مشروع رجل دولة للسنوات المقبلة من العهد الحالي، بات يتحدث بطلاقة ويحلل بعمق ويتابع بدقة ما يحدث في العالم وبالذات ما يتعلق بالأزمة الاقتصادية العالمية المباغتة ويطرح في هذا الشأن أفكاراً جريئة ويحرص على أن يتقمص خصال والده الشهيد ليؤكد أنه الابن البار الذي في استطاعته إكمال ما تبقَّى من الحلم الحريري... إنما بعد أن يكون الثأر القانوني، من خلال المحكمة الدولية في لاهاي وليس الثأر الشخصي على طريقة الإمام الخميني وآخرين يحلقون في فضاء الثورة الإيرانية، أخذ طريقه إلى النفوس.