حكي فاضي!

TT

جلس الضيف على كرسيه وأخذ في ترتيب بدلته وربطة العنق، واستعد لتلقي سؤال المذيعة التي قالت له: «ما رأيك بأبعاد مضمون الخطب التي ألقيت بمناسبة مهرجان التأييد والموالاة؟» (وهنا لا يمكن إغفال «حرفنة» السؤال!) فتنهد الضيف وقال: «ولو؟ الموضوع كتير واضح» فأجابت عليه: «وكيف واضح؟» فعاد الضيف ليقول: معقول؟ ما بدا سؤال!.

فعاودت المذيعة تترجى الضيف «أرجوك» فقال: «إن ازدواجية المسارين تحتم علينا كمراقبين موضوعيين للأزمة الراهنة أن ننظر لكل مجهود نضالي على أنه ثمرة بذور التضامن الاستراتيجي، وأن كل طرح مغاير هو طعن إمبريالي في الظهور القومية، وعليه فإن التقعور خطير والانفراش مرفوض» وعادت الكاميرا على وجه المذيعة التي ابتسمت بهدوء ونظرت لضيفها، ثم استدارت نحو الشاشة وقالت: «الحق معك».

هذا نص حقيقي حدث بالفعل وليس سيناريو كوميديا هابطا للأفلام التافهة إياها، ولكن هذا المشهد يتكرر بصور مختلفة في عالمنا العربي اليوم، فتجد أن هذا مجرد نموذج صادق للحوارات والخطب التي تحدث بين الأطراف السياسية المختلفة، فتجد كل الأطراف تدور حول حلقة مفرغة، فلا تجرؤ على تسمية الأمور ولا تعريف المسائل فتبقى المشكلة قائمة، لأن الشعب نفسه مأمور بأن يسير خلف طائفته وزعيمها، بغض النظر عما إذا كان عرف موقف هذا الزعيم السياسي أو حتى تفهم هذا الموقف وكون رأيا موضوعيا بحق ذلك.

وهذا الموقف الممل نجده في البرلمانات الثورية العربية والتي تستمر الخطب «والحكي الفاضي» فيها لساعات طوال لتعرض على اللجان والهيئات الفرعية «المنبثقة من القومية الشعبية» وغير ذلك من «الطحن» الممل الذي يفقد أي مصداقية وجدية وجدارة لأي مشروع سياسي ممكن طرحه في جو هكذا.

واليوم نرى ذات المشهد البائس الحزين وسط الفلسطينيين أنفسهم الذين انقسموا بشكل مفزع ومخيف قبل الاستقلال فما بالك بعد الحكم في دولتهم؟ الفلسطينيون ضحية ظروفهم، وهذا ليس بعذر، فهم سمحوا لأنفسهم أن يستغلوا أبشع استغلال من قبل أجهزة استخبارات إقليمية للعب بهم والعبث بمستقبلهم بشكل فج، وهذا ليس بجديد، فسابقا كانت حركات أبو نضال وأبو العباس وأبو موسى ووديع حداد جميعها أدوات للغير، أدت تصرفاتها لإحداث الانشقاق والفتن وسط الفلسطينيين مع عدم إغفال الخسائر السياسية المهولة نتاج رعونة التصرف. ولكن لا بد من القول بأن ذلك كان هو المطلوب تماما حتى تستفيد قوى أخرى بالمنطقة من ذلك وتهيمن سيطرتها وتستمر في التحدث باسم النضال والمقاومة والتحرير والنصر والمعركة. فتح منقسمة حول نفسها، حماس غير الجهاد، وحماس الداخل غير حماس الخارج. عدد الضحايا من الفلسطينيين جراء العنف الفلسطيني البيني أكبر من عدد الضحايا نتاج المقاومة الفلسطينية مع إسرائيل! هذه وحدها حقيقة مفزعة ولكنها تعكس واقعا مؤلما أكثر.

اليوم الفلسطينيون يدخلون شوطا دقيقا من المحادثات البينية ومع إسرائيل وإذا لم «يفهموا» بين أنفسهم ما الذي يريدونه فلا يمكن أن يتوقعوا أن يفهم الغير ويتعاطفوا مع متطلباتهم. قبل التحرر من الاحتلال الاسرائيلي على الفلسطينيين أن يتحرروا من سطوة أنفسهم وسطوة الغير عليهم، وأن لا يسمحوا لأنفسهم أن يتحولوا إلى علكة قديمة في أفواه «الحكوجية» الذين لم يقدموا لهم سوى الخطب والشعارات والديباجات الفارغة والتي لو كتبت في درس تعبير للصف الرابع لرسب الطالب فيها.

[email protected]