الدولة العربية الحديثة أولا؟!

TT

منذ فترة ليست بعيدة، كشفت دراسة «جماعة الرؤية الإستراتيجية» بتمويل من حزب العدالة والتنمية في تركيا، ووزارة الخارجية التركية، ووزارة الخارجية النرويجية، والمؤسسة القطرية، عن أن كلفة النزاع في الشرق الأوسط خلال العشرين عاما الماضية بلغت 12 تريليون دولار. وقبل ذلك في عام 1995 نشر مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية في القاهرة دراسة عن الصراعات في الشرق الأوسط، تقول إن سكان المنطقة الذين يبلغون 8% من سكان العالم عرفوا 25% من صراعاته خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وبتكلفة تسليح فقط بلغت 1.5 تريليون دولار، وبعدد من الضحايا بلغوا ثلاثة ملايين نسمة، ومن اللاجئين والنازحين وصلوا إلى 14 مليون نسمة.

مثل هذه الدراسات تحتاج إلى مزيد من الشرح لمفاهيمها والأسس التي قامت عليها، فضلا عن تقدير تكلفة الفرص البديلة التي كان ممكنا أن تغير من مصير المنطقة كلها؛ وطبقا لما جاء في الدراسة الأولى فإن تحقيق السلام في المنطقة بالتزامن مع تطبيق سياسات اقتصادية سليمة سوف يؤدي إلى نسبة نمو قد تصل إلى 8% سنويا لدى بعض الدول. وتعالوا نتخيل، ولو لحظة، كيف كان سيكون حال المنطقة والعالم العربي خاصة إذا ما نجح عدد من دوله في تحقيق هذا المعدل من النمو ولعقدين متتاليين؟! فساعتها ربما كنا قد حصلنا على ذلك الفارق ما بين الدول «النامية» والدول «المتقدمة».

وربما كان اللافت للنظر في هذه الدراسات كلها أن الصراع العربي – الإسرائيلي – وهو الذي يقفز إلى الذهن فور الحديث عن نزاعات الشرق الأوسط - ليس أعلى الصراعات في المنطقة تكلفة سواء من حيث التكاليف المادية أو البشرية. وربما كانت الحرب العراقية - الإيرانية خلال الثمانينيات هي الأعلى في الكلفة، أما الحرب الأهلية في السودان فكانت الأكثر فداحة من حيث الضحايا، ومن يظن أن مقتل 1300 فلسطيني ومعهم 5000 جريح كان مجزرة في حرب غزة الأخيرة، فإن عليه أن يبحث عن كلمة أخرى ليصف بها مقتل 300 ألف من أهل دارفور، بجوار مئات الألوف من الجرحى ومعهم أكثر من مليون من اللاجئين.

والخلاصة التي تهمنا من كل ذلك، هو أننا إزاء إقليم صراعي بامتياز ليس فقط بين العرب وجيرانهم من الفرس والإسرائيليين، بل أيضا بين الدول العربية ذاتها، وداخل كل دولة عربية على حدة، حيث كانت الحروب الأهلية في السودان ولبنان واليمن والجزائر والصومال والعراق هي الأعلى دموية وتكلفة. ومن المدهش أنه رغم هذه الحالة البائسة، فإن هناك قليلا من الدراسات التي حاولت البحث عن أسباب هذه الظاهرة، بل وأسباب الهروب من دراستها. ومن المؤكد أن هناك أسبابا كثيرة لهذه الحالة، ولكن واحدا منها يستحق التفكير وهو العجز الدائم للدولة العربية من ناحية عن إدارة الصراعات داخلها، ومن ناحية أخرى عجزها عن إدارة الصراعات الإقليمية المختلفة، بحيث يجري عليها ما جرى في أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية حيث سكتت المدافع وانتهت الحروب والأزمات، ولم يبق هناك إلا العمل من أجل التنمية، والدخول في مجالات المنافسة العالمية المختلفة اقتصاديا وتكنولوجيا وحتى قيميا وثقافيا أيضا، فضلا عن السير على مسارات مختلفة للمشاركة السياسية في صنع القرار السياسي في البلاد.

وهكذا فإن حجر الزاوية في مواجهة الصراعات الإقليمية، وتحقيق التنمية الداخلية، يوجد في الأساس داخل الدولة الحالية، وبالذات الدولة العربية التي تجاذبتها تيارات الاعتدال والراديكالية لكي تصل بها أحيانا إلى الحرب الأهلية أو حافتها، أو تستبدل الحرب بدرجات مختلفة من التحكم والاستبداد. مثل هذا الحل الأخير ليس طويل المدى أو له طبيعة أبدية، وعلى الأرجح فإنه سوف يكون عرضة للانفجار عندما تتلاقى عوامل الأزمات الإقليمية مع ظروف تراجع اقتصادية في لحظات من البؤس السياسي وغياب الحكمة. وإذا كان هناك سمة أساسية، بجوار الصراعات المختلفة، للمنطقة العربية، فهي ذلك التوتر الدائم الذي يجري ما بين الذين يحاولون الحفاظ على الأمر الواقع، والتقاليد القائمة، والدولة الموروثة من عهد الاستقلال، وبين هؤلاء الذين يريدون الثورة والفورة وقلب كل الأمور الإقليمية وحتى العالمية رأسا على عقب. وسواء حدث ذلك تحت راية الثورة العالمية كما حاول الماركسيون العرب، أو الثورة العربية كما حاول القوميون، أو الثورة الإسلامية كما تحاول جماعات أصولية وراديكالية إسلامية خلال السنوات الأخيرة، فإن التحدي كان راجعا في الأساس إلى عجز الدولة العربية القائمة عن القيام بمهامها في التنمية الداخلية وتحقيق الاستقرار الإقليمي. وفي أحيان كثيرة كانت الدولة العربية مضطرة إلى مجاراة القوى الراديكالية المختلفة في خطابها الثورى، لأنها ببساطة لم يكن لديها بديل فكري جاهز للتعامل مع أوضاع مركبة ومعقدة.

لقد طالبنا في مقالات كثيرة سابقة بأنه ليس كافيا للدولة العربية أن تكون «معتدلة» أو ساعية نحو التنمية والسلام وسلامة شعوبها، وإنما لا بد وأن يتم ذلك من خلال عملية إصلاحية واسعة، قد تكون تدريجية، ولكنها في النهاية تسعى سعيا حثيثا لتغيير ما هو قائم، لأن ما هو قائم لم يعد ملائما لا للعصر، ولا للتغيرات الديموغرافية الجارية في البلدان العربية المختلفة. وببساطة فإنه لم يعد هناك بد من بناء الدولة العربية «الحديثة» والتي بدونها لن يوجد مجال إلا لتيارات رجعية أو مغرقة في محافظتها، أو لتيارات راديكالية من أنواع مختلفة قادت بلادها والمنطقة إلى التخلف والاحتلال الأجنبي والتقسيم والحروب الأهلية.

وحتى تكون الأمور واضحة فإن الدولة «الحديثة» هي الدولة القادرة على جذب كل أطرافها إلى قلبها، وليس مهما هنا عما إذا كان التنظيم الإداري أو السياسي للدولة مركزيا أو فيدراليا، وإنما المهم أن تصل الدولة بمواصلاتها وأمنها وعملتها وعملياتها الإنتاجية وأسواقها الاستهلاكية إلى كل أطراف الدولة. ولمن يقرأ عن دولة مثل سويسرا فإنه سوف يظن أنها أكثر الدول المفككة في العالم، ولكنها في الحقيقة أشدها التحاما واندماجا واتحادا بسبب تلك العلاقة العضوية بين الكانتونات المختلفة في اللغة والتقاليد. وللأسف فإن كثيرا من الدول العربية تدور حول العاصمة أو عددا محدودا من الحواضر بعيدا عن عملية الاندماج الوطني، وتبقي في كل الأحوال الصحاري فاصلة بين المناطق والأقاليم، حيث تتكون «قوميات» محلية وعشائرية يتم استغلالها من عناصر راديكالية أو حتى من قبل قوى خارجية. وما تعانيه الصومال والسودان والعراق واليمن الآن كان راجعا في جوهره إلى عجز الدولة الوطنية عن «اختراق» جماعاتها وأقاليمها وعشائرها، بحيث أصبح جزءا من جماعة وطنية واحدة.

ولعل جزءا من عملية الاختراق هذه قيام الدولة كلها على المؤسسات، وكما تحل البنوك محل الأفراد، في القيام بالعمليات المالية والاقتصادية، فإن المؤسسات القائمة على قواعد واضحة وعادلة هي التي تحل محل الأفراد والقبائل في تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فكرة المؤسسات هذه لا ترتبط بالدولة الديمقراطية بالضرورة، ولكنها تخلق المقدمة الطبيعية لها، وتنضج الشروط المهمة لوجودها حينما يسود القانون والمساواة تحت ظله، بحيث تدار الدولة وفق قواعد موضوعية وليست شخصانية. قد يكون كل ذلك عودة إلى البديهيات، ولكن ربما كانت العودة إلى البديهيات هي ما نحتاج إليه، بحيث إن التعليم وزيادة كفاءة الدولة التنفيذية، وقيام الدولة التنموية محل الدولة الأمنية السائدة، وباختصار قيام الدولة الحديثة العصرية، سوف يكون المقدمة الطبيعية لدول مستقرة تستطيع العمل من أجل إقليم مستقر. وبصراحة فإن تنامي، وتعاقب، الحركات الراديكالية والثورية في العالم العربي، والكوارث التي قادت إليها كما وضح في دول عربية شتى لم يكن راجعا فقط للحيوية التي تمتعت بها هذه الحركات، وقدرتها على طرح أحلام رومانسية، وإنما لأن الخيرين في الدولة العربية أبقوا أحوالها على حالها، وفي كثير من الأحيان تصوروا التغيير لا يزيد على أمور مالية أو اقتصادية يتم ترجمتها في مزيد من البنية الأساسية ذات الواجهات اللامعة. لقد آن الأوان لتغيير كل ذلك، أو انتظروا أزمات قادمة كثيرة!!.