الحميمية مع المستعمر القديم

TT

نعرف أن الاستعمار الجديد هو استمرار نفس علاقات التفوق، إنْ لم نقل نفس علاقات الاستغلال، التي كانت سائدة في فترة الاستعمار القديم، لكن بلا تحكم مباشر. وتولد ذلك عن تخطيط مسبق، فنشأت أوضاع جديدة بين الشمال والجنوب، وتلونت الأوضاع والعلاقات، فيما بين المستعمرات السابقة وبين القوى التي كانت تحكمها، بأصباغ متنوعة، ولكنها معبرة في الغالب عن استمرار وجود علاقات وثيقة على مختلف المستويات. وبدلا من القطيعة التي تصورها فرانز فانون، حدث استمرار في العلاقات وتطوير في الآليات التي تضبط تلك العلاقات.

ومن المشاهد الضاربة للأعين في باريس أن اللون المضاف إلى المحلي هو الإفريقي، وفي أمستردام ولندن هو الآسيوي. لقد اقترنت فترة الاحتلال المباشر الذي مارسه الأوروبيون في أقطار الجنوب، بحضور مادي لهؤلاء في المستعمرات، تجلى في مختلف المظاهر، العسكرية والاقتصادية والثقافية، وأيضا في المظهر البشري، حيث تم انتقال ملايين الأوروبيين إلى المستعمرات لإقامة الأجهزة البيروقراطية والمرافق الاقتصادية، والتمهيد لاستعمار استيطاني كان الأوروبيون يعتزمون إقامته لإحكام السيطرة على المستعمرات. وكان الاستعمار الفرنسي على الخصوص يطمح إلى أن يتمكن من تغيير هويات البلدان التي حل فيها؛ ليجعلها على صورته. ولكن ظروف ما بعد الاستقلالات أفرزت حركة معاكسة، إذ هب أبناء المستعمرات القديمة إلى الميطروبول زرافات ووحدانا. وأصبحت فترة الاحتلال المباشر تمثل مرجعية قائمة ومقبولة.

وقبل أن يقلع الرؤساء الأفارقة عن الحضور في مؤتمرات منظمة الوحدة الإفريقية، ثم الاتحاد الإفريقي، ببذلاتهم العسكرية، كانت الصورة العائلية للحاضرين في اجتماعات القمة الإفريقية تظهر أنه يمكن تصنيف القادة تبعا لنمط البذلة العسكرية الموروثة عن الاستعمار. وكان من السهل على الملاحظ أن يميز بين ثلاثة أنماط رئيسية، تماما كما يمكن فرز ثلاث كتل، إحداها فرنسية والثانية إنكليزية، والثالثة برتغالية. الكتلة الرابعة عربية ذات لغة هي لغتها الوطنية.

وباستثناء ردود الفعل الغاضبة على خطاب ساركوزي في جامعة داكار منذ عام ونيف، ظهر أن البلد المستعمِر (بكسر الميم الثانية) سابقا يحظى بدرجة عالية من القبول. وقد رأينا منظرا فريدا لاستقبال حار حظي به الرئيس الفرنسي شيراك في ساحة رئيسية بالعاصمة الجزائرية، حيث كانت الهتافات الأكثر ترديدا هي المطالبة بتسهيل الحصول على التأشيرة.

إذن، حدث بلا تخطيط أن نشأت على غرار «الاستعمار الجديد»، قابلية جديدة إزاء الاستعمار القديم. وكانت جريدة «لوموند» الفرنسية قد أبرزت منذ سنوات في سلسلة مقالات عن الصلات بين الميطروبولات الأوروبية والمستعمرات القديمة، أن الإندونيسيين يرتاحون إلى التطبيب في هولندا، مثل ما يرتاح سكان المستعمرات الفرنسية القديمة في المستشفيات الباريسية. ولنراجع، لكي نتأكد من كثافة هذه الصلات، جداول رحلات الطيران بين العواصم الأوروبية وبين مختلف مدن المستعمرات القديمة في إفريقيا وآسيا، وكذا إحصائيات التبادل التجاري بين دول الشمال ومستعمراتها في الجنوب، وإقبال المتعلمين من دول الجنوب على جامعات دول الشمال.

ولا شك أن ذلك التدفق الغزير للمبادلات في شتى الحقول يرجع إلى مفعول الأدوات التي أقيمت في فترة الاحتلال المباشر، وظلت طيلة عقود من الزمن تتعهد سريان التبادل بين الميطروبول والمستعمرات القديمة، وذلك عبر قنوات متينة وفعالة، يصعب في أغلب الحالات تلافيها أو إيجاد بدائل لها. وقد حدث مثلا أن العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا انقطعت بعد شهور قليلة من استعادة الاستقلال، بسبب تعنت باريس في المسألة الجزائرية. وفي فترة القطيعة بالذات، حيث لم يكن هناك سفير للمغرب في فرنسا، تحركت فرنسا لبذل مجهود في ميادين التربية والتكوين فاق ما بذلته في نحو الأربعين سنة التي دام فيها استعمارها للمغرب. وبفضل ذلك المجهود تمكنت من إرساء تعاون قوي، ما فتئ يتطور ويتنوع ويتزايد حجما وقيمة على مر السنين. وما زال المغربي في كل جانب من جوانب حياته يشعر بأنه من الطبيعي أن يعتمد باطمئنان على اليد الفرنسية، حتى أن بعض الفئات لا تتصور كيف يكون العالم بلا فرنسا.

وإذا كان المغاربة في فترة الاحتلال لم يعرفوا التراب الفرنسي في غالب الأحيان إلا كجنود أو عملة يدويين ، ففيما بعد الاستقلال تسرب المغاربة إلى فرنسا مثل غيرهم من سكان المستعمرات القديمة، واحتلوا في كل ركن مكانا ملموسا، وأحيانا مكانة مرموقة في شتى الحقول. وفي المقابل حدث أمر يبعث على الاستغراب، وهو أن شركات فرنسية وإسبانية أخذت تتكلف في مدن مغربية بتسيير مرافق، مثل جمع الأزبال، وتوزيع الماء والكهرباء، وكراء الأرصفة لركن السيارات في الشوارع، ولا شك أن ذلك إقرار مفضوح من لدن المغاربة بالقصور والكسل.

وهناك تنافس حاد بين إسبانيا وفرنسا في الساحة المغربية. وهو أمر جديد، لأن إسبانيا كانت في فترة الاحتلال تجتاز ظرفية اقتصادية صعبة، بسبب خروجها محطمة من الحرب الأهلية، ومقاطعتها من لدن المجتمع الدولي بسبب نظامها السياسي. وتذكر الدوكيسة كارمن دي فرانكو في كتابها الصادر منذ أسابيع «فرانكو، والدي» أن السفن التي كان يبعثها الجنرال بيرون حاكم أرخنتينا محملة بالقمح كانت تخفف من الجوع الذي كانت تعاني منه البلاد في الخمسينيات. ولهذا، فإن الطلاب المغاربة الذين كانوا يعبرون الجزيرة الأيبيرية في الطريق إلى فرنسا كانوا يستغربون كيف أن بلدا بئسا مثل الذي كانوا يعبرونه كان يحتل جزءا من المغرب الذي لم يكن حاله اقتصاديا يختلف عن الحال الاقتصادي في إسبانيا إلا قليلا، ولكن الأحوال تغيرت، وأصبحت إسبانيا اليوم ثامن اقتصاد في العالم. ومنذ السبعينيات أصبح المغاربة يقصدون إسبانيا للعمل في الحقول الزراعية وفي البناء. وأنجز الباحث بيرنابي لوبيث خريطة توضح الانتشار الجغرافي للمغاربة في التراب الإسباني، تبرز كيف أن المغاربة الباحثين عن العمل يوجدون عمليا في كل بقعة من شبه الجزيرة الأيبيرية. وجعل بيرنابي لتلك الخريطة عنوانا موحيا: «عودة الموريسكوس». والجدير بالذكر أن هؤلاء المهاجرين ليسوا دائما من أبناء الموريسكيين، ولا هم من المناطق التي كانت إسبانيا تحتلها في المغرب شمالا وجنوبا أيام نظام الحماية. ذلك أن الدافع إلى الهجرة مادي محض، ولهذا تجد الكثير من سكان المغرب الوسط جنوب الدار البيضاء قد هاجروا مثلا إلى إيطاليا التي لم تكن لها سوابق استعمارية في المغرب.

إن مشاعر المغاربة نحو إسبانيا ليست من صنع فترة الاحتلال المعاصرة، بل هي ذات جذور ثقافية وديموغرافية قديمة العهد. ولهذا فإن المغاربة عموما، وليس فقط سكان المناطق التي كانت تحكمها إسبانيا، يشعرون بوجود أواصر خاصة مع الإسبان. ومثل هذا وقع لمحمد عطا، وهو من أصحاب البرجين. ففي فترة التدريب على الطيران في ميامي، استعدادا لعملية 11 سبتمبر الشهيرة، كان قد مال عاطفيا إلى متدرب بعينه، واختاره من بين باقي المدربين بسبب أصله إسباني، لكي يتدرب علي يديه. وذلك بلا شك بسبب ما يرسب في الذاكرة العربية عادة من أن لنا أواصر خاصة من الإسبان. ومنذ أكثر من سبعين سنة نقل أمين الريحاني عن إسبان اختلط بهم «إننا أبناء عمومة». وبسبب هذه القرابة، رغب شاعران عربيان في أن تعينهما حكومتهما في السفارة بمدريد، وأعني السوري نزار قباني، والعراقي عبد الوهاب البياتي.