القصور الرئاسية.. لمَنْ!

TT

لعلَّ ما شيده صدام حسين من قُصور منيفات خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم يجمع عددها لولاة بني أمية وخلفاء بني العباس (132 –656هـ) بالعراق. وكان أكثر ما شُيد منها في حقبة الحصار(1990-2003). يومها وصل الحال بأساتذة جامعيين إلى العمل سواق أجرة، واضطرب العلم والتعليم والطبابة والفنون، ومسخ كل شيء. وباختصار: أصبح النفط مقابل الغذاء، ومن الخبز والعدس كانت تُقتطع أموال عِمارة تلك القصور، وكابونات لشعراء وكُتاب أعراباً وأعاجمَ! ما زال ملف القصور الرئاسية مفتوحاً، وهي بالعشرات: المجمع الرئاسي بكرادة مريم، وقصر الأعظمية، والسجود، والرضوانية، والثرثار وقاعته المائية، والبصرة، والفاو، وأبو غريب، وتكريت، وبابل وغيرها. أقول ما زال ملف القصور مفتوحاً فلعاب المتنفذين يسيل على عتبات بواباتها. الكل يريدها داراً له أو مقراً لحزبه. وقد يتمكنون، عبر (الشرعية)، من سلبها. ولا ينسى حوم نائب برلمان حول قصر البصرة، ليكون ابنَ هبيرة عصرهِ!

كان قصر يزيد بن هبيرة الفزاري (قتل 132هـ) من أشهر قصور الولاة في تاريخ العراق الأموي، وصاحبه آخر مُقاتل دفاعاً عن الدولة الأموية وآخر ولاتها على بلاد الرافدين، شيده بين الكوفة وبغداد. وضده قال الفرزدق (ت 110هـ) «أمير المؤمنين وأنت برٌ..أمينٌ لستَ بالطبعِ الحريصِ.. أأطعمتَ العراق ورافديه.. فزارياً أحذّ يد القميص»! اتخذ العباسيون القصر داراً للخلافة، وسموه الهاشمية، إلا أن الناس ظلت تعرفه بكُنية صاحبه، فتشاءموا ورحلوا عنه إلى الأنبار(معجم البلدان).

واشتهر قصر الجَعْفرِي لجعفر المتوكل (قتل 247هـ) على مقربة من سامراء، وتولى عمارته الكاتب المسيحي دُليل بن يعقوب، وانتقل إليه «عامة أهل سامراء حتى كادت تخلو». ومن قصور بغداد ببغداد السلام للرشيد (ت 193هـ)، والتاج للمكتفي بالله (ت 295هـ). كما حوت دار الخلافة عدة قصور، مثلما هو مجمع القصور الرئاسية بكرخها. وجرت العادة أن يُحبس أقرباء الخلفاء وأولادهم في قصورهم، خشية خروجهم لطلب الخلافة (الفخري في الآداب السلطانية). هذا ولم يبق لـ (37) خليفةً عباسياً ببغداد قصر ولا قبر! أما العهد الملكي (1921-1958) فكان له: الرحاب والزهور، وثالث شيد كبلاط، حيث القصر الجمهوري، وهو ليس الرحاب مثلما تناقلته الجرائد، ولم ينزله فيصل الثاني، ولا عبد الكريم قاسم، فقد ظل الأخير يسكن وزارة الدفاع، وبيت بسيط مستأجر من راتبه. كذلك لم يُشيد عبد السلام عارف ولا أخوه عبد الرحمن قصراً، ولا لرؤساء الوزارات قصور، حتى ظهر صدام حسين فأفرغ كرادة مريم من أهلها، ونشر القصور الرئاسية في أفاق العراق. فتراه مرسوماً بالثياب البابلية وهو يضرب سهماً إلى الأفق من قصره فوق آثار بابل، تشبهاً بعظمة نبوخذنصر.

لكن أكثر أسماء القصور رعباً كان قصر النهاية، وهو الرحاب نفسه. سألت أحد المسؤولين بالقصر آنذاك عن الاسم، فأجابني: «لنهاية السلوك السيئ لدى المعتقلين»! والحقيقة لنهاية حياتهم! حيث جمعت دولة البعث فيه، بفترتيها: (1963) و(1968) كل أدوات البطش، وأشرف عليه مبتلون بدماء المئات من البشر! لم يسألهم أحد بعد عمَّا فعلوه. ولا أظن التسمية جاءت من نهاية العائلة المالكة ظلماً فيه آنذاك!

قُطعت تكاليف القصور الرئاسية من ذخيرة الناس، ولم يُترك لهم سوى قوت لا يقوت! مثلما يقطع الآن الفاسدون، من المتنفذين، المليارات مما تجود به الأرض من النفط، وما يشقى به الصناع والزُراع! ظهر الفاسدون على الناس كالضواري، والغالب منهم يقول: نحن على نهج أهل البيت، وأولهم علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)! أقول: هلا قرأتم كتاب عهده إلى مالك الأشتر (اغتيل 37هـ): «لا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم..»(نهج البلاغة)! وقد أكلتم من المال العام سُحْتاً وما شبعتم! وآخرون يقولون بنهج عمر بن الخطاب (اغتيل 23هـ)، وهم العارفون، أكثر مني، بحرصه على بيت المال! لذا أتمنى على الأحزاب أن تحرر الدين، واسمي عمر وعلي من شعاراتها! فنتائج الانتخابات الأخيرة، وعلى الخصوص بكربلاء والأنبار، كان صرخة احتجاج أولى!

القُصور الرئاسية من حق العراقيين عامة، ليس مروءة جعلها منازلَ خاصةً، إرث سلفٍ إلى خلفٍ! ولا أمكنة سياحية. وأول المجعولات، فنادقَ سياحية، المشيد فوق إرث بابل، وكم تراه جارحاً لهيبة المكان التاريخية! وبلا ريب، سيعصف الفساد بما تدره السياحة من مالٍ! وبهذا يُحرم الناس من رؤيتها شهوداً على حقبة غاب فيها التوسط بين أنفار فاحشي الثراء وسواد أعظم من الفقراء. لرؤساء المحافظات وبغداد الجدد المنتخبين ألا تُجعل القصور، التي في محافظاتهم، إلا دور ثقافة، ومتاحف فنون، فبعد تقهقرٍ ما أحوج العراق إلى الثقافة..!

[email protected]