استسقاء الدم في عيد العشاق

TT

«سان فالنتين» في لبنان، بات يشبه إلى حد كبير في بوليسيته وثأريته، فيلم الرعب الأميركي الصادر حديثاً، تحت عنوان «يوم الحب الدموي». فالفيلم يحكي جريمة قتل جماعية تحدث في يوم العشاق يذهب ضحيتها اثنان وعشرون شخصاً. مرتكب الجريمة كان، هو نفسه، ضحية لجريمة سبقتها جاء ليثأر لها لكنه قتل. القصة لا تنتهي هنا لأن المتسبب في الجريمة الأولى يظهر بعد عشر سنوات ويقرر أن يعود إلى مدينته ليغسل روحه من أدران الماضي الذي يعذبه. لكن هيهات، فلسبب غامض تبدأ جرائم القتل تتوالى بشكل مثير، ولا يجد الناس من أحد يتهمونه إلا هذا الرجل العائد وصاحب السوابق الذي أراد أن ينتهي من تاريخه القديم فوقع في حبائله.

ولبنان من يوم الجريمة الجماعية التي ارتكبت في يوم الحب منذ أربع سنوات، وأودت بالرئيس رفيق الحريري ومرافقيه ومن مروا صدفة في ذاك المكان الوديع على شاطىء البحر، يسير على درب الفيلم الأميركي، حيث تتسلسل الجرائم بما لا يسمح بفكفكة أسبابها أو إيقاف آلتها. ولربما أن التائبين أنفسهم، أو المتهمين زوراً لم يتمكنوا من أن يقنعوا أي أحد بتوبتهم أو براءتهم كما حال البطل الأميركي؛ لأن السفك من يومها لم يتوقف، والسفاح لم يكتشف أو يعاقب.

ودخول الحمامات الدموية ليس مثل الخروج منها. لا بل إن عدد المجرمين يتصاعد بشكل مطّرد وعدد الذين يتحسسون رقابهم أيضاً. فالعنف دائرة إن لم تكسرها بكل قوتك كسرتك وأجهزت عليك. وكان اللبناني يستيقظ يوم عيد العشاق مهجوساً بالرومانسية والغرام، فبات، بعد تلك الفجيعة، يستفيق مستعيذاً مما يمكن أن يحمله له يوم جديد من التظاهرات والخطابات والاحتقانات. فالعنف ليس صنيعة فئة، بل هو شراكة تنجرّ إليها النفوس الهائجة، بصرف النظر عن صوابية مبادئها، أو خنفشارية منطقها.

فكما في الفيلم الأميركي، ليس مهماً أن تكون نبيل الغاية أو شرير الغرض، بقدر ما يعنيك أن تسبح في فضاء مسالم كي لا تقتل أو تدفع إلى القتل. وقد تفاجأ بأن جسدك يقطّع بسكين أو أنك تدهس بسيارة وربما تضطر بحكم الدفاع عن النفس لأن تجهز على شريكك في الوطن ببلطة على رأسه، كما كان حال العائدين من تظاهرات 14 شباط اللبنانية. وليلة التظاهرة لم تكن أقل عنفاً، فالمتظاهرون الذين باتوا ضحايا نهار الاحتفال، كانوا قبل ذلك وعلى مدار ليلتين متتاليتين، يمطرون الناس برصاص الابتهاج الحي، الذي صمّ الآذان وأرهق النفوس، وأعاد البشر إلى ذكريات سوداء. لربما أن أحداً لم يمت برصاص الاحتفالات الكثيف، لكن استخدام السلاح لأي غرض كان، هو في حد ذاته عنفا واستفزازا.

وإن كان ساسة بلاد الأرز لا يرون في بعض ما يمارس عنفاً، فمراجعة الكتب والدراسات التي وصّفت العنف سيعينهم على كسر مأساتنا، وإخراجنا من دوامة صبغت ثياب الأمهات بالأسود بدل الفساتين الحمراء يوم السان فالنتين. فالدم الذي سال من الشهيد المغدور، بسكين في ظهره وبقية الجرحى، كان كافياً لجعل الأحمر يوم السبت الماضي كريهاً لسنوات طويلة مقبلة. موسوعة «أونيفرساليس» تحدثنا عن وجوه جديدة للعنف، يستحسن التنبه لها.

فليس من السهل تحديد أين يبدأ العنف، كما أن الإجهاز على روح قد يبدأ قبل الفعل نفسه، بمن يحضر له ويحث عليه أو يشجع. وقد لا ينتهي الأمر بموت الضحية أو سجن الجناة وتبقى الدورة مستمرة من خلال الذين يتعاطون الخبر، ينقلونه، يفسرونه، يحللونه، ويضعونه في الإطار الذي يريدون. وفي هذا يشترك الساسة والصحافيون والناس العاديون.

ولعل واحدة من أغرب الظواهر في لبنان، وأكثرها شراسة هو الإحساس بأن الوطن بحاجة إلى دماء. وكلما قتل أحدهم سمعت عبارة: «فدا لبنان». وكأنما الوطن يأكل أطفاله، ولا ينتعش من دون الارتواء بأرواح ابنائه. والذين خطبوا يوم 14 شباط الماضي، لم يشذوا عن هذا النهج وهم يستذكرون تضحيات موتاهم حتى لتكاد العائلة التي لم يقتل أحد أفرادها تشعر بالعار وبأنها أقل وطنية من غيرها، ما دام الشهداء هم قوة للمرشحين، وأسرع الطرق للكراسي والمناصب.

غريب هذا المنطق من فريق رفع شعار «حب الحياة»، فإذا به يباهي بالموت وبأنه لا يبالي بمزيد منه. كل فئة تمجد الموت على طريقتها، وتصوره كضرورة للاستمرار. إذ جاء الاحتفال بشهداء 14 شباط بفارق يومين فقط عن الاحتفال بقادة المقاومة الشهداء على رأسهم عماد مغنية، ليتساوى الفريقان في الاحتفاء بالموت كأسلوب في بعث الهمم واستنهاض العزائم. والأمم جميعها تستذكر أبطالها ورجالاتها من باب الوفاء، لكننا في لبنان أمام فيض هائل من الشهداء الذين ماتوا غدراً وظلماً، وتطول اللائحة حتى يستعصي ذكرهم أو استذكارهم بأسمائهم، فتسمع الخطباء يتحدثون عن لائحة من الأسماء تتلوها عبارة: الشهداء الآخرين. وهو اعتراف ضمني من السياسيين الأحياء أن الموتى فاضوا عن الحد.

لا يحتاج لبنان كل هذا الكم من الموتى المطعونين في الظهر، ومن المحزن تحميله كل هذا العبء الدموي المتزايد. ونكاد نقول إن غالبية الضحايا الذي سقطوا، بصرف النظر عن الجهة الخارجية التي أرادت التخلص منهم، إما أنهم قتلوا بأيد لبنانية أو بمعونة لبنانية، وعلى أهل الأرض المتهمة بالشراهة للدماء، أن ينتبهوا إلى أنهم ينسبون لها ما يخجلون أن ينسبوه لأنفسهم. والأرض اللبنانية بريئة من هذه التهمة حتى تثبت إدانتها، فيما اللبنانيون مدانون بقوة حتى يتمكنوا من إثبات العكس.

[email protected]