منحنى النيلين

TT

ولد وعاش ومضى، شيئاً من النيل، دافقا مثله، كان. صاخبا هادئا حالما طافقا هدارا عارما فائضا رائقا مثله كان. بمياه النيل ومزاج النيل وطمي النيل، كتب كل حكاياته. كان حكواياً أنيقاً عميق النظر لا يفوته شيء من أحدوثات وأحاديث وحواديث الضفتين.

كان يحوِّل الشجرة إلى حكاية، والموجة إلى حكاية، والصبا والشقاء والهجرة والبقاء والترعة والفلاحين والعم العجوز والعم الساخر وساحر القرية وأطفالها وفقرها ووصول الربيع وصوت الغابة وظلمتها العميقة البعيدة وحداء العرب وغناء أفريقية والتيه في عالم الرجل الأبيض وألوان المدن وأضواء المدينة وإبحار العمامة البيضاء في نوتات بيتهوفن ومؤلفات شيللي ومناحت مور، يحولها كلها إلى حكاية يأسر بها قارئيه أو مساوميه أو عارفيه.

فما كانت هناك حالة وسط في الصداقة مع الطير المهاجر إلى الشمال. كان هو الآسر، كاتباً أو محدثاً، وهو الأكثر وداً، وهو الأنقى حضوراً، وهو النيل ثقافة ومودة وتواضعاً وذاكرة وملاحة وكرامة وعزة، كأنما تحت عمامته البيضاء، الكثيرة الطيات على نحو عجيب، عالم متعدد ثري غني، يعرف النيل كيف يضبطها في طياته ويتركها تنساب في النهاية تياراً واحداً وحيداً لا اسم له سوى هذا الاسم الذي بدا كأنه كنية أدبية شاعرية توائم حياة الشخص وطبعه وخصائله الجمة: الطيب صالح.

لم يفلسف الطيب صالح المشاهدات. ولم يطرح القضايا، بل رسمها مثل غويا. ولم يثر المسائل بألفاظ طنانة، بل زرعها في السهول التي عبرها ببساطة وعفوية ودائماً بخصب جميل. لم يتوسل لشهرته ظلامة أفريقيا، ولم يستمهل أحداً عند بشرته ولم يستوقف أحداً. مثل النيل مضى وتركنا نتبعه، يقلده المقلدون عبثاً، فقد كان خليطاً سرياً مثل القهوة الآتية من شجرة بن لها ألف لون وألف عبق.

وضع الطيب صالح السودان على خريطة الأدب العربي. تكفل بذلك محمد الفيتوري شعراً، قبل أن يلتحق بالفرع الليبي من الفياترة، مستأنساً بغلبة الحياة. ثم أطل ساحر النثر والرواية وحاوي الثقافات والقلب الأنقى من منحنى النيلين، الأبيض والأزرق.