الجبل السحري

TT

طهران: يرتفع جبل البروز شمال العاصمة الإيرانية حيث تثير قممه التي تغطيها الثلوج أحلام الفرار في نفوس من يشعرون بالاختناق داخل المدينة، وفي يوم من الأيام سأفقد قدرتي على الاستمرار في مقاومة جاذبية هذا الجبل.

وبالقرب من سجن إيفين، حيث يعاني الآلاف، ويعد الإعدام من الأحداث المتكررة، بدأت إحدى المحاكمات. وسرت خلف مجموعة مندفعة من الأشخاص لينتهي بنا السير أمام عدد من المقاهي التي تمتلئ برائحة النارجيلة وتقدم عصير الرمان الطازج. وحتى الآن لا تزال إيران تسعى إلى تحقيق الحرية، منذ بدء الثورة الدستورية في عام 1906. والملاحظ أن الثورة الإسلامية لم تتمخض عن دولة استبدادية، حيث يجري الاستماع إلى كافة أنماط وجهات النظر، وإنما خلقت مجتمعا يمثل الخوف الرابطة الرئيسية بين أبنائه، ذلك أن الاختفاء في غياهب مكان ما يبقى دوما احتمالا قائما. وعليه يتضح أن الحرية التي ترمز لها الجبال ذات طبيعة مزدوجة.

وبالنسبة للشباب الإيراني يشكل جبل البروز ملاذا بعيدا عن المدينة التي يصعب فيها العثور على فرص عمل، لكنه أيضا ملاذ فكري، بعيدا عن الرقابة الذاتية والملابس موحدة اللون والشرطة الأخلاقية التي تقف دوما على أهبة الاستعداد، خشية تكشف رقبة امرأة أو سقوط شعر امرأة خارج غطاء الرأس.

في المنطقة الجبلية تعلو أصوات الشباب ويشرعون في الغناء على أنغام آلات وترية تقليدية، ويتلون أشعار الشاعر العظيم حافظ، ولا يأبهون بتلامس الأصابع، وما زاد عنها. ويرتبط أبناء هذه المنطقة بعضهم ببعض بأواصر قوية، وتتجلى قوة إيران في شعبها الذي ينتمي غالبية أبنائه إلى أعمار أقل من عمر الثورة البالغ 30 عاما.

في أحد المقاهي دخلت في محادثة مع اثنين من الإيرانيين، نرجس عزيز، 23 عاما، التي تدرس الجرافيك، وصديقها بهمان مورادي، 26 عاما، الذي يدرس فن التصميم. ويمارس الطالبان رياضة تسلق الجبال مرة أسبوعيا. كانت نرجس ترتدي سترة رياضية زرقاء اللون، مما يشكل انتهاكا لقواعد الملبس الإسلامي كافيا لتعرضها للاحتجاز. وقالت عزيز: «لقد التقطوا صورا لي للوجه ولجانبَي وجهي، واضطر والداي إلى الحضور لاصطحابي معهما». وقد استمعت إلى قصة مشابهة من سيدة مطلقة في منتصف الثلاثينات من عمرها، حيث استوقفتها الشرطة لارتدائها نمطا آخر من الملابس المحظورة - تنورة - رغم أنها وصلت الكاحل. وكان الغضب لا يزال يعتمل بداخلها بسبب ما تعرضت له من إذلال خلال هذه التجربة.

في الواقع ينبغي أن يتمثل الرمز الخاص بإيران في ملا يرتدي عمامة ويمتطي زلاجة سكوتر بينما يتحدث في هاتف جوال، أو امرأة شابة حولت الحجاب إلى نموذج للأناقة الفارسية.

وسألني مورادي: هل ينبغي علينا الرحيل؟

وأجبته: ليس إذا كنت على استعداد للتحلي بالصبر.

وردّ علي بالقول: قد يستغرق التغيير جيلين.

وعادت بي ذاكرتي إلى لقاء جمعني بأحد كبار الملالي، محسن غارافيان، في مدينة قم المقدسة، وبدا منفتحا في شرحه لوحدة الإسلام والقضايا السياسية والحرية حتى وصلنا إلى قضية ملابس المرأة. هنا قال غارافيان: «يمتهن البعض الدعارة في بعض الدول، لكننا هنا لا يمكن أن نقبل بذلك، لذا فإن السبب وراء عدم السماح بالحرية في اختيار الملابس يتركز في أن هذا الأمر ربما يؤدي تدريجيا إلى إلغاء قيمنا، وخلق الظروف المناسبة أمام انتشار الدعارة».

صحيح، لكن الثورة التي يعدّ رجل الدين هذا أحد رموزها عمدت إلى تمكين المرأة، فعلى سبيل المثال نجد أن آية الله الخميني هو الذي حث العائلات التقليدية على تعليم فتياتها. واليوم، مثلما أشارت زميلتي نازيلة فتحي قريبا، تمثل المرأة ما يزيد على 60% من طلاب الجامعات. ولا يمكن للقوانين أن تبقى متأخرة دوما عن واقع فكري متحرر. وتتجلى المفارقة في أن الثورة الإسلامية هي التي خلقت مجتمعا ذا طابع علماني قوي في إطار يهيمن عليه رجال الدين. وفي الوقت الذي سن الشاه قوانين تقدمية من أجل المرأة لم تكن الإيرانيات على استعداد لها، بات العكس قائما الآن، حيث تواجه نساء تقدميات تشريعات تعمد إلى تقييدهن. وعند نقطة ما سيتحتم إذعان طرف منهما.

لذلك نصحت عزيز ومورادي بالتحلي بالصبر. ويعد هذا أيضا سببا يستدعي من الغرب التعاون مع إيران وتجنب الأمر الوحيد الذي يمكنه إصابة تطور البلاد بانتكاسة، ألا وهو شن حرب تزيد أعمال القمع وتبث المزيد من الجرأة في تيار القومية الدينية.

وعلى ارتفاع أعلى قابلت مارجان سافيار، 20 عاما، طالبة هندسة كهربية. وقد بدت أنيقة في سترة ضيقة فضية اللون، وأكدت أنها أعلى الجبل «تتنسم الهواء». وسألتها إذا كانت تعتقد أن إيران ستتغير، فأجابت بالنفي قائلة: «رجالنا لا يملكون الشجاعة لذلك».

لكن الوضع مع النساء يختلف، فالإيرانيات سبب كافٍ للنظر إلى إيران كأحد المجتمعات الواعدة في الشرق الأوسط، وليس أكثر تهديدا.

* خدمة «نيويورك تايمز»