لأجل المصالحة العربية ـ اليهودية!

TT

سوف يصعقون بهذا العنوان المفاجئ.. سوف يقولون: لم يجف الدم بعدُ في غزة، وهو يدعو إلى الاستسلام والمصالحة مع العدو! ومع ذلك فإني مصرّ على هذا الخيار، وبعد طول تأمل وتفكر في الموضوع، بل ويمكن القول إني توصلت إلى هذه النتيجة التي فاجأتني أنا شخصيا، وما كنت أتوقعها بعد سنوات عديدة من الحيرة وتقليب الأمور على وجوهها كافة.. لقد لزمتني عزلات طويلة وقراءات عديدة حول هذا الصراع الجهنمي، قبل أن أحزم أمري وأتخذ موقفي. نعم إني أعتقد جازما أن استمرارية هذا الصراع أصبحت عبثية ولا معنى لها. أصبحت تعرقل نهضتنا وانطلاقتنا. أصبحت عبئا لا طائل من ورائه. أصبحت ضياع وقت وجهد ومال، وإزهاق للأرواح بشكل مجاني.

فلتكن معركة غزة إذن آخر الحروب، ولنطو الصفحة نهائيا، وليبتدئ عهد آخر جديد في المنطقة، ولنكرس كل هذه الطاقات والإمكانيات المهدورة من أجل البناء والعمران، لا من أجل الدمار والخراب. لنكرسها لبناء المدارس والجامعات والمستشفيات وروضات الأطفال.. وليبتدئ المشروع الحضاري العربي حقا وحقيقة، لا نستطيع تأجيله إلى ما لا نهاية بحجة تحرير فلسطين، لنحرر العقل العربي أولا، وبعدئذ تتحرر فلسطين من تلقاء ذاتها.

أعترف أن قراءة الكتاب الأخير للمفكر الفلسطيني ساري نسيبة، كانت بمثابة القشة التي كسرت ظهر البعير، أو القطرة التي جعلت الكأس يفيض عندي. وقد صدر بالإنكليزية والفرنسية مؤخرا، تحت العنوان التالي: «كانت هناك بلاد. حياة في فلسطين»، قراءته هي التي دفعتني إلى اتخاذ هذا الموقف، الذي قد يسبب لي سوء التفاهم وبعض المتاعب لدى الغوغائيين والديماغوغيين العرب، الذين يملأون الآن الفضائيات وأعمدة الصحف بزعيقهم وصراخهم. في إحدى صفحاته يقول له الفيلسوف واللاهوتي الإسرائيلي دافيد هارمان: أرجوك أن تتذكر ما يلي: إسرائيل لم يصنعها خريجو الجامعات الكبرى من أمثال برنستون وييل، وإنما أناس مجروحون مدمرون خارجون من أعماق الغيتوهات في أوروبا الشرقية، ولا يمكن لأي طبيب نفساني يهودي أن يشفي روح الشعب اليهودي. وحده الطبيب الفلسطيني يمكن أن يشفيها. أرجوكم ساعدونا على تضميد جراحاتنا النفسية!

هل هناك كلام أبلغ من هذا الكلام؟ نحن نضل الطريق تماما، إذ نضع رأسنا في رأس اليهود ونناطحهم بهذا الشكل إلى ما لا نهاية. سوف نكسر رأسنا معهم من دون أي نتيجة. هؤلاء لهم تاريخ خاص جدا ومعذب جدا جدا. فلنجرب طريقة أخرى في إدارة الصراع، بدلا من الإصرار على نفس المنهج القديم التعيس إلى ما لا نهاية. نقول ذلك، خاصة إنه يمكن أن نكسب المعركة معهم بطريقة أخرى، ومن دون أن نطلق رصاصة واحدة: أي عن طريق الإنجاب والتزايد الديموغرافي أو السكاني. الشعب الفلسطيني وحده سوف يغمرهم ويفيض عليهم. وبالتالي فيكفينا حروبا ومناطحات عقيمة. لقد شبعنا منها ومللنا. هؤلاء الذين يرعبوننا بطائراتهم وصواريخهم وأحدث أنواع التكنولوجيا العسكرية، هم في الواقع مرعوبون منا. كل وجودهم قائم على الغيتوهات والاضطهاد، ومليء بالمجازر المتواصلة على مدار التاريخ من دون انقطاع تقريبا. هذا هو التحليل النفساني للصراع العربي الإسرائيلي.

الانتصار على إسرائيل قادم لا محالة، وأكاد أقول من تلقاء ذاته. كيف؟ عن طريق الانتصار على الذات أولا، والنجاح في بناء المشروع الحضاري العربي، والسيطرة على العلم والتكنولوجيا. انظروا إلى الصين وماذا تفعل. ألا تعتقدون أن عندها الرغبة في الانتقام من الغرب الذي أذلها منذ القرن التاسع عشر، بعد ما يدعى بحرب المخدرات ضد الإنكليز؟ لقد أهانوها في عقر دارها، ولكنها لا تغامر بتحديهم الآن. إنها تنتظر حتى تكون قد استوفت بناء مشروعها الاقتصادي والتكنولوجي والحضاري لكي تقف في وجه أميركا، ثم لكي تنتقم من اليابان أيضا. ولكن ليس قبل ذلك. ينبغي أن تعد للأمر عدته. هذا هو المنهج السليم. وهنا تكمن العقلانية السياسية التي لا يفقهها للأسف العقل الأصولي الغيبي الاستلابي، الذي دمرنا مرتين على مدار سنتين فقط: المرة الأولى مع حزب الله، والمرة الثانية مع حماس.

ما فائدة كل هذه الحروب التي لا تقدم ولا تؤخر؟ بلى، تؤخر كثيرا للأسف الشديد، وتدمر بنيتنا التحتية، وتعود بنا عشرات السنين إلى الوراء، وتسبب لعائلاتنا ونسائنا وأطفالنا كل هذه الفواجع والآلام المبرحة. وكل ذلك لكي نعود إلى نقطة الصفر من جديد، أو إلى ما قبل نقطة الصفر.

من يستمع إلى ساري نسيبة تلميذ محسن مهدي في هارفارد، المستضيء بأنوار الفارابي وابن سينا والنزعة العربية الإسلامية في أعلى ذراها تألقا؟ لا أحد. كلهم يركضون وراء الأصوليين، الذين تجرأ بعضهم على رفع راياتهم وشعاراتهم البائسة حتى هنا في قلب باريس عاصمة النور والحضارة والتنوير! هذا شيء مرفوض قطعا. لذلك أقول في نهاية هذا المقال: المستقبل ليس لحماس والظواهري وبن لادن، ولا لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي فقد صوابه، وإنما هو لذوي النوايا الطيبة والعقول المستنيرة من كلتا الجهتين، الفلسطينية والإسرائيلية، العربية واليهودية، وهم موجودون بكثرة، ولكنهم خائفون وصامتون.