ثلاث نقاط لا اثنتان

TT

بدأت العمل الصحافي مع واحد من كبار أساتذته التاريخيين، الأستاذ ميشال أبو جودة. كان يومها أشهر كاتب في لبنان، ورئيس التحرير غير الرسمي لـ«النهار». أما عمله في الجريدة فكان القسم الخارجي، أي الشؤون الدولية والعربية. كان عملي أن أعد الأخبار وأضع عناوينها ثم أسلم المادة إليه. وبعد التاسعة أو العاشرة، كان يغادر المكتب، تاركاً لي التعامل مع «الطوارئ»، أي مستجدات الأحداث، وهي مسؤولية مرعبة. وفي اليوم التالي كان يحاسبني على الأخطاء وعلى النقص وعلى صياغة العناوين.

وأول ما علمني أن العنوان دلالة، وليس رأياً ولا وجهة نظر. وكان يومها قد وقع زلزال في إندونيسيا فوضعت للخبر عنواناً متعاطفاً، فقال لي، العنوان، أولاً الموقع، ثانياً عدد الضحايا، ثالثاً درجة الهزة على مقياس ريختر. أما إعانة المصابين فأتركها للهلال الأحمر في جاكرتا. نحن هنا في بيروت لا نستطيع شيئاً سوى أن نكون دقيقين في نقل الخبر إلى الناس.

في تلك المرحلة كنا مدمنين على قراءة «روز اليوسف» و«صباح الخير» وصحف مصر. من أحمد بهاء الدين إلى إحسان عبد القدوس. وكان إحسان يكتب سطراً من الكلمات وسطراً من النقاط. كل كلمة خلفها نقطتان. وكل سطر يُلحق به طن من النقاط. ونصف طن من علامات التعجب. وثلاث أقات من علامات الاستفهام.

وذات مرة استخدمت النقطتين في مانشيت الصفحة الأولى. وفي اليوم التالي هرع ميشال أبو جوده إلى المكتب كأنما كارثة وقعت. وقال غاضباً: ماذا فعلت بنا اليوم؟ ألا تدري أنه ليس في اللغة العربية شيء اسمه النقطتان؟ من أين جئت بهذه البدعة؟

كان غاضباً لدرجة أنني لم أجرؤ على استيضاحه حول صحة استخدام النقاط أو عددها. وأخذت أبحث بنفسي عن مكامن الكارثة. وتبين لي أن الأستاذ أحمد زكي باشا أفتى في الأمر العام 1913 في كتابه «الترقيم في اللغة العربية» الذي وضعه بتكليف من وزارة المعارف في مصر. وقال، رحمه الله، أن لا وجود في العربية للنقطتين، فإذا أردنا استخدام نقاط الحذف فهي ثلاث، ولاستخدامها قواعد سبع، لا يجوز تجاوزها، ومنها أن توضع النقاط الثلاث مكان الكلام المحذوف لاستقباحه أخلاقياً والترفع عن ذكره.

وقد لاحظت في الآونة الأخيرة هجوماً نقطياً مريعاً على الصحافة العربية. كل كلمة خلفها نقطتان.