المتهم اعترف يافندم

TT

المسافة بين اليسار واليمين في بريطانيا تحددها الأزمات الحادة، كأزمة السيولة النقدية العالمية، أو حرب العراق التي أدت لانقسام الرأي العام؛ أو في السياسة الخارجية عندما رفض شعب أيرلندا، في استفتاء تاريخي، معاهدة لشبونة، وهي إعادة تغليف للدستور الأوروبي الموحد الذي يدعمه اليسار، بينما يرفضه الرأي العام البريطاني المحافظ؛ في حين يفضل اليمين العلاقة التاريخية عبر الأطلسي بدلا من أوروبا.

المسافة تتلاشى عند الدفاع عن الديمقراطية، فافتتاحيات صحيفة «التلغراف» المحافظة لم تختلف عن مضمون الإعلام اليساري كـ«الغارديان» والـ«بي بي سي». الجميع ينبه الرأي العام لخطر يهدد الحريات المدنية وهو شبح الدولة البوليسية التي تنتهك أسرار المواطنين بحجة الحماية من الإرهاب.

حكومة العمال بزعامة توني بلير أصيبت «بإسهال» إصدار القوانين المقيدة للحريات بعد هجمات 11 سبتمبر. قوانين لم تفلح في منع إرهاب 7/7 من الوصول لشوارعنا وضرب العاصمة في شريانها الرئيسي - مترو الأنفاق.

تاريخياً بادرت صحف يمين الوسط، كـ«الديلي تلغراف» و«الديلي ميل»، بالتنبيه لخطر قوانين حكومة العمال على الديمقراطية ابتداءً بسخف مشروع إصدار بطاقات الهوية الجبرية؛ بينما جاء صوت اليسار خافتاً متأخراً لساحة المعركة.

باستثناء عدد بسيط مازال يتمسك بسيادة مجلس العموم، يتبع نواب الحكومة، كالقطيع، تعليمات دليل الحزب للتصويت whips (ولا مقابل بالعربية لكن الترجمة الحرفية تعني ماسك السوط) التي تصلهم على المحمول بالموافقة على مشاريع قوانين مناقضة للديمقراطية، بينما يظل مجلس اللوردات - وهو غير محزّب حتى الآن لأنه غير منتخب - كصمام الأمن لمنع تمرير القوانين الخرقاء المنافية للمنطق (ولا عجب أن بلير وخليفته غوردون براون يسعيان لإلغاء خصوصية المجلس المشكل من حكماء الأمة واستبداله بمجلس منتخب سينقسم حزبياً لا محالة وتتراجع مصلحة الأمة أمام المصلحة الحزبية).

تعرضت حكومة براون للحرج بتصريحات ستيلا ريمنغتون، المديرة السابقة لجهاز المخابرات MI5 والتي لا يشكك أحد في حرصها على مصالح الأمة، بدليل أن الملكة منحتها لقب Dame (المقابل النسوي للقب فارس) تقديراً لخدماتها للبلاد.

اتهمت ريمنغتون وزراء العمال بـ«خلق حالة من الفزع لدى المواطنين لإقناعهم بقبول قوانين مقيدة للحريات ومنح البوليس سلطات سيندم المواطنون عليها».

واتهمت الحكومة بمنح الإرهابيين انتصاراً لم يحلموا به، بإجبارنا على تغيير نمط حياتنا، وإدخال الرعب في قلوبنا والتحول تدريجياً إلى دولة بوليسية على غرار دولة ستالين في روسيا ودولة هتلر في ألمانيا النازية.

وانتقدت أميركا لـ«مغالاتها في مكافحة الإرهاب ولجوئها للتعذيب والتعاون مع مخابرات ديكتاتوريات دموية، وتلويث سمعة العالم الحر بانتهاك حقوق الإنسان وانتهاك القانون الدولي بسجن غوانتانامو».

وقبل تناول معادلة موازنة الحفاظ على الحريات الديمقراطية بإجراءات الأمن، فلنستبق جوقة البريد الإلكتروني قبل مهاجمتها الغرب (الكافر)، وبريطانيا وأميركا، بتذكيرهم أن حرية الرأي والتعبير في بريطانيا والغرب تعني أن تتصدر الصحف القومية مانشيتات انتقاد شخصية كالمدام ريمنغتون حكومتها في حين لا تعثر على مدير مخابرات «سابق» حر اللسان في معظم البلدان التي تدعم وتمول الحركات القومجية والإسلاموجية.

فمدير المخابرات «السابق» في هذه البلدان إما «المرحوم» بعد الانقلاب العسكري أو «الثورة» أو هو نزيل معتقل لا مكان له في الخرائط المنشورة، منذ أزيح من وراء مكتب إدارة المخابرات.

انتقدت صحيفة «التلغراف» البوليس كمنظمة يتناقض نشاطها مع الحريات العامة. فرجل البوليس يريد «تفصيل» قوانين تسهل مهمة جمع الأدلة وهو جالس إلى مكتبه، بدلا من تعريض نفسه للخطر باختراق المنظمات الإرهابية من الداخل.

فمن الأسهل التجسس على مكالمات الناس وبريدهم الإلكتروني، أو القبض على شخص يبدو «غير إنجليزي» المظهر التقط صورة لمبنى يحرسه رجل بوليس (وهو قانون دخل حيز التنفيذ الاثنين الماضي في بريطانيا).

تقليدياً تجمع المباحث الأدلة المادية وتقتفي أثر المشتبه فيه لمدة طويلة للقبض على بقية أفراد الشبكة الإرهابية وتجهز النيابة شهود الإثبات.

البوليس الآن يفضل إرهاق أعصاب المشتبه فيه باحتجازه 42 يوماً دون توجيه تهمة محددة (قانون استغلت حكومة براون أغلبيتها البرلمانية وفرضته، رغم أن قسماً معتبراً من نواب الحكومة تمرد وصوّت ضد القانون). البوليس يطالب بزيادة مدة الحجز إلى 90 يوماً بأمل إجبار «المشتبه» فيه على الاعتراف بمكان مواد تصبح أدلة الاتهام وبقية أفراد الشبكة، وبالتالي تكتمل الأدلة المادية (لا يأخذ القضاءان الإنجليزي والاسكتلندي بالاعتراف كدليل إدانة دون أدلة مادية)، مع إضافة ملف كامل من المكالمات والبريد الإلكتروني، دون أن يكلف رجال البوليس أنفسهم عناء مغادرة المخفر إلا للقبض فقط على أفراد الشبكة من اعترافات المتهم الذي انهارت أعصابه من الاحتجاز دون توجيه التهمة له 42 يوماً (أو 90 إذا تحقق لهم ما يريدون).

الخطر في مثل هذه القوانين السخيفة ثلاثي الأبعاد.

أولا: تهب الحكومة، كرد فعل لعمل إرهابي، وبلا تفكير عميق، فتستغل أغلبيتها البرلمانية، وتشطب في جلسة واحدة، المكاسب الديمقراطية والحريات التي حصلت عليه الأمة بتضحية الأجيال وجهود الفلاسفة المفكرين والقانونيين لأكثر من 800 عام، منذ توقيع وثيقة المجناكاراتا (وقعها الملك جون عام 1215)، بحجة حماية الأمن. وتضيع هباءً تضحيات الآلاف ضد الهتلرية النازية قبل ستين عاماً لمنع وصول الدولة البوليسية لهذه الجزر.

ثانياً: تحقق القوانين للإرهابيين من أعداء الديمقراطية أهدافهم بإدخال الرعب إلى حياة الناس وتعطيل المصالح والقضاء على الحريات (خاصة أن غاية الإرهابيين الحاليين، كـ«القاعدة»، هو القضاء على الحريات المدنية والديمقراطية وحكم القانون الوضعي).

الخطر الثالث: أن التعذيب والحبس الانفرادي يجعل المتهم يعترف بما يريد المحقق أن يسمعه، فيهنئ الأخير نفسه بينما تنشط العصابة الحقيقية في الخفاء للإضرار بالمجتمع. وذلك مثل تغطية قمة جبل الثلج العائم وترك بقيته غاطساً لا تراه العين فيصدم السفينة ويغرقها.

ولو تحقق لحكومة العمال ما تريد ستعود بريطانيا أخلاقياً للوراء قروناً في بليّة يذكرني شرها بنكتة انتشرت في مصر قبل أربعة عقود: اشتد الخلاف بين علماء الآثار حول هوية مومياء مصرية اكتُشفت حديثاً؛ فاحتكموا للرئيس الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر، الذي كلف مدير المخابرات السابق سيئ الذكر صلاح نصر ببحث الأمر. وبعد 72 ساعة قدم نصر تقريراً للرئيس عن هوية المومياء ملخصه أنها لموظف جمارك في عهد الملك رمسيس الثاني، أخذ رشوة من اليهود فسمح لنسائهم بتهريب المجوهرات والحلي التي اقترضنها من جيرانهن المصريات. وبإعجاب شديد سأل الرئيس مدير مخابراته عن كيفية اهتداء جهازه لهذه التفاصيل؟ فرد نصر ببرود مشيراً لصندوق المومياء «المتهم اعترف بكل حاجة يافندم!».