جرأة بلا أيديولوجية

TT

على مدى العامين الماضيين، جعل باراك أوباما من الصعب على أي شخص أن يعجزه فلسفيا. وعليه، فعندما رفع يده يوم تنصيبه رئيسا لأميركا، ما الذي يمكن أن يتوقعه الشعب الأميركي، سوى جهود يبذلها شخص متحمس يعتمد أساسا على البيانات في حله للمشاكل؟

لقد قضى أوباما فترة الرشد يميل إلى اليسار، بينما كان يغازل المحافظين، وبهذه الطريقة تمكن من الفوز خلال أولى حملاته، لرئاسة صحيفة «هارفارد لو رفيو». وقد سمى أوباما نفسه «شخص تقدمي»، وعندما يستخدم من حين لآخر كلمة «أيديولوجي» في إشارة إلى ميوله الشخصية، يصف نفسه بوضوح بأنه في مكان ما من يسار الوسط.

ومع ذلك، فإن معظم إشاراته إلى الأيديولوجية تبدي قلة الاكتراث والاحترام. وخلال مناقشة حزمة التحفيز الاقتصادي التي يقترحها، تحدث أوباما عن تقييم المقترحات على أساس عدد الوظائف التي سوف تخلقها والسرعة التي ستحرك بها الاقتصاد.

المعايير الأخرى غير مقبولة.

وثمة ثلاثة مفاتيح على الأقل يمكن من خلالها فهم منحى أوباما فيما يتعلق بالأيديولوجية.

أولا: سعادته الشديدة في اختبار نفسه أمام من يختلفون معه. ويقول شخص ما يعرف الرئيس الأميركي جيدا إنه (أوباما) يحب التحدث مع خصومه الفلسفيين أكثر من التحدث مع حلفائه.

وهذا الجانب من شخصيته كان في يوم من الأيام الكاتب والأستاذ الجامعي المعزول، الذي يمكنه النظر إلى حياته الخاصة من على بُعد بدرجة من التجرد. وعلى أي حال، يمكن النظر إلى الاختلافات الأيديولوجية في الولايات المتحدة على أنها صغيرة، فليس لدينا حزب اشتراكي رئيس، وحتى في هذا الصدد، سنجد أن المحافظين أنفسهم يحدوهم التردد إزاء التخلص من التأمين الاجتماعي المحدود أو برامج الخدمات الاجتماعية.

ولكن، يعد منحى أوباما المعادي للأيديولوجية أمرا فعالا بالنسبة لشخص تقدمي، وعلى الأقل في الوقت الحالي. تعد الأيديولوجية، منذ عصر رونالد ريغان منطقة اليمين، فالكثير من البرامج التي قدمها المحافظون كانت تعتمد على معتقدهم ونظرتهم العالمية أكثر من اعتمادها التجربة العملية. فأي طريقة أخرى يمكن من خلالها للمحافظين الزعم بأن تقليل الضرائب سوف يزيد بصورة عملية عوائد الحكومة، وأن الاتجاهات الاقتصادية التي تستهدف الأغنياء تؤتي ثمرتها في الوقت الذي تُظهر فيه دخول الطبقة الوسطى عكس ذلك؟

وهنا نصل إلى المفتاح الثاني: ففي الوقت الحالي، أن تكون عمليا فإن ذلك في الصالح التقدمي. لاحظ أن البيانات تظهر أن أقسام الحزمة التحفيزية المتجانسة مع الليبراليين (حيث تدعو إلى زيادات في تأمين البطالة والبطاقات التموينية وتقديم دعم مالي إلى الولايات وإنفاق الحكومة على المشروعات العامة) هي ذاتها الأجزاء التي تصحبها ضجة اقتصادية كبرى. وبصيغة أخرى، لا يحتاج التقدميون إلى أيديولوجية لإظهار حجتهم.

وفي هذا الصدد، على الأقل، فإن أوباما يشبه فرانكلين روزفلت، الذي رفض المبادئ الاقتصادية المحافظة خلال العشرينات من القرن الماضي، «علينا التأكيد على حقيقةٍ، وهي أن القواعد الاقتصادية ليست من صنع الطبيعة، إنما هي من صنع البشر»، هكذا قال روزفلت، مواجها، بصورة مباشرة، الوعود المحورية التقليدية في علم الاقتصاد. ومن ثم جعل روزفلت من البرجماتية والتجربة أعداء للأيديولوجية المحافظة. وفي الوقت الحالي يقول أوباما نفس الشيء، راسما على وجهه ابتسامة وهو يعتمد على كمية كبيرة من البيانات.

ولكن، على مستوى ثالث، لا يعد حديث أوباما المعادي للأيديولوجية مجرد وسيلة للميول التقدمية، ولكنها الصفقة الحقيقية. يقدم أوباما بصورة مستمرة ثلاث أفكار أساسية سوف تحدد مدته الرئاسية، إذا ما سمحت الأحداث له بأن يتحدث عنها بنفسه، وهذه الأفكار الثلاث هي «التضحية» و«الصفقة الكبرى» و«الاستدامة».

وعندما تنصت إلى أوباما ومدير ميزانيته بيتر أورسزاغ، فإنك تستمع إلى قصة عن الآلام المالية على المدى الطويل. وقد يتعين على الحكومة الإنفاق وتقليل النفقات بصورة كبيرة في الوقت الحالي، ولكن على المدى الطويل، فإن الميزانية الفيدرالية ليست مستدامة. وهذا مجال التضحية. وستكون هناك علامات عليها في الميزانية الأولى التي سوف يقدمها أوباما، وفي جهوده لاحتواء تكلفة الرعاية الصحية وفي دعواه للإصلاح وفرض قيود على انبعاثات الكربون. ويروج معسكر أوباما لفكرة أنه إذا كان يريد السلطة من أجل مبادرات جديدة وإنفاق جديد، فسيكون على أوباما أن يبرهن على رغبته في تقليل بعض البرامج وإصلاح برامج أخرى.

و«الصفقة الكبرى» التي يتحدثون عنها عبارة عن مزيج وكثير من الجرأة والحصافة. ويتضمن ذلك حكومة ودودة عندما يكون ذلك ضروريا، تحافظ على توازنها إدارة صارمة وخصومات قد لا تحظى بقبول من جميع الأطراف، ولكن في النهاية - ونعم، ستكون هناك بعض الزيادات الضريبية - يقولون إنه يجب على الجميع تقديم شيء ما.

ويضيفون أن هذا التوازن وحده سوف يحصد دعما واسعا لما يريد أوباما القيام به، ومن ثم يجعل إصلاحاته «مستدامة»، هذه الكلمة السحرية، التي تعني أنه حتى عندما يعود الجمهوريون في النهاية إلى سدة الحكم، فلن يفضلوا تغييرها.

طموحات يحيطها الكثير من اللغط، ولكن جدير بالذكر أنه في نوفمبر (تشرين الثاني) انتخب الأميركيون رجلا يرى أن «الجرأة» إحدى كلماته المفضلة.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»