العراق يقطع محطة ديمقراطية أخرى

TT

التحول الديمقراطي قطع مرحلة أخرى في العراق والتي مثلت محاولات أولية ولا نندفع مع من يعتبرونها حاسمة في تشكل العراق، إذ أنها ثبتت دوام البناء التراكمي للديمقراطية وأن العراق بات أحد مراكزها الذي يوثق به، ولتداولية السلطة في منطقة ظلت عصية عليها وتفتقر لسجل يعتد به لممارستها، كما عززت الشرعية ووسعت من فضائها فضم إليها بفاعلية الطرف المقاطع والمحجم حيث انخرط السنة وبمعدلات عالية ولم تقاطع أحزابهم وقواهم العملية السياسية كما فعل معظمها قبل أربع سنوات، فبتنا نسمع اتهامات بالخروقات الانتخابية بدل اتهامات التخوين والتكفير للمنخرطين، بل حضر حتى الصوت البعثي الذي يلحظ تمثيله الآن، فبذا أنهيت اختلالات التمثيل غير المتوازنة والقاصرة عن عكس الحاجات السكانية.

كما بات يلحظ وعي جنيني لدى المواطن العراقي عندما خذل وأسقط الإدارات التي فشلت في ملاقاة حاجاته، فبتوافقية ملفتة أن كل المحافظات أطاحت بمحافظيها وأسقطت معهم مجالس محافظاتها، وأيضا لجأ الناخب للتصويت الاحتجاجي في تفضيلاته فصوت أحيانا بطريقة استبدالية ولأقل القوى ضرراً حتى عند عدم يقينيته في البدائل، كما أنه حسم القضايا الخلافية التي طال الجدل فيها حول شكل العراق المستقبلي وفي طريق مساراته، فصوت لجهة وحدة العراق ولمركز مهاب وقوي وليس مجرد بنك توزيع أموال وساحة صراع صلاحيات ومنتدى ممثلي أقاليم، ورفض تغول وتمدد الأطراف على المركز وأطاح باللامركزية الشديدة وأجل البحث في الفيدراليات، ووجه بوصلة التعديلات الدستورية التي هي ضائعة منذ سنين ثلاث بين تجاذبات مصالح الفرقاء وجدران رفضهم.

الذي يؤشر أيضا أنه رغم فشل التيار العلماني في أن يحقق أي تحسن في مواقعه محبطاً بذلك الآمال النخبوية التي عولت عليه والاحتفاء الإعلامي الذي وظف له إلا أن ذلك ليس دلالة على تجمد التغيير بل العكس، حيث تجسد ذلك ببروز تمظهرات جديدة في خطاب القوى الإسلامية نفسها، حيث تمثل التغيير في خطاب قائمة ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء المالكي والتي حصدت المحافظات العشر في بغداد وجنوبها، فبرغم أن الأحزاب المنضوية فيها هي ولا شك أحزاب إسلامية إلا أنها غادرت الرسائل الدينية الواضحة واتكأت على منجز الحكومة وركزت على تحقق الاستقرار وسيادة دولة القانون وأخرت بل ضمرت عندها الرمزيات الدينية وتقدمت وعود البناء، غادرت مظلومية الماضي وحاولت أن تستثمر بالمستقبل، إن هذا التحول ليس استجابة لرد فعل عنيف ضد الدين أو مجاراة لشارع في تحولاته بل هو استشعار بالمتغيرات، إذ أن انحسار العنف يستتبعه انخفاض الميل والحاجة للملاذات الطائفية، وان تحقيق الاستقرار يدفع بالمقدمة الحاجات الحياتية والخدمات وفرص العمل والتي اعتبرت يوماً ترفاً مقابل حفظ النفس، وبالضرورة حينئذ يخف استخدام وتوظيف الهوية الدينية وتتراجع لمصلحة الهوية الوطنية وان تضمر أيضا الهوية الطائفية في المحافظات المتجانسة وبين فرقاء الطيف الواحد، ولذلك لا يعود نافعاً، إذ لم يكن ارتدادياً، التوظيف في الحشد الديني واستخدام الرموز والوعد والوعيد بالماورائيات على حساب حاجيات يوم غد كونه يعد استمراراً بالاستثمار بالجهل. المحطة الديمقراطية الأخيرة التي غادرها العراق رغم أنها لمجالس المحافظات والتي يفترض أنها أقرب إلى انشغالات البناء والخدمات والأعمار وتسيير اليومي إلا أن دلالاتها السياسية مهمة، والزخم الذي وظف فيها والآمال التي ارتهنت عليها والأثقال السياسية التي تبارت عليها كلها تشي باستشعار أهميتها في تحديد ملامح خارطة القوى السياسية والحاكمة للعراق لسنينه الخمس القادمة، فهي مؤشر على اصطفافات القوى وتحالفاتها للسنة المتبقية من عمر الحكومة وهي استطلاع أولي لميول الناخب في الانتخابات البرلمانية القادمة، وبالتالي فإن التداولية وسيولة التحالفات السياسية في العراق وصعوبة ضبطها بضابط كون هاجسها ومحركها غالباً بل دوماً هو «الذاتي» سواء تمظهر فردياً أو حزبياً أو كتلياً أو أعيد واختزل بالعكس، فإنه ووفقاً لذلك لا القوى الرابحة سيطول بها الزهو ولا الخاسرة ستركن لذلك، بل إن المسرح يعد لجولة تحالفات واصطفافات جديدة تعيد خلط الأوراق، إذ أن القوى الخاسرة لا تعزو خسارتها كلياً لقصور في الأداء واختلال في الخطاب وضعف في المنجز ومراهنة على مرشحين متواضعين، بل لأنها واجهت حزباً امتلك وسخر أدوات الحكم ومنجزه ومستفيداً من بريق السلطة، لذا يعود ضرورياً لها من أجل ألا يتكرر المشهد في الانتخابات العامة تحييد هذه الأدوات وحرمانه منها، لا ريب أن رئيس الوزراء استفاد من بريق السلطة ومن الكاريزما التي تحققت له بتحوله من زعيم طائفي في بداية حكمه إلى زعيم وطني ومن اقترانه بالمنجز الأمني، إلا انه من غير الدقيق عزو ما تحقق لاستخدامه لأدوات السلطة ودلالة ذلك الجلية هي في فوزه في تسع محافظات يديرها خصومه وفشله في المحافظة التي يديرها حزبه وفي معقلهم التأريخي على يد مرشح مستقل في كربلاء.

حتى بدون جولة الصراعات البادية في الأفق القريب، فإنه لا الكبار سيقبلون اختزال دور طالما امتلكوه ولا الصغار سيستسلمون للدخول في مرحلة الموت السريري، لذا فإن معركة الفائز ستكون في قادمات الأيام هي الأشد، ناهيك عن أن موعد حسابه لا يفصلنا عنه إلا بضعة شهور، وسيعود لملاقاة الناخب والاحتكام إليه، فإذا كان في المرحلة السابقة قد تخفف رئيس الوزراء من أعباء مجالس المحافظات وصب فشلها لمصلحته انتخابيا، فللفوز أعباؤه حيث إن إخفاقها سيحسب عليه وسيأكل من جرفه، فالناخبون أعطوه تفويضاً وليس مكافأة، إنها الديمقراطية التي وإن عظمت كلفها تبدو واعدة في العراق.