أرض العشق

TT

تنبت سنابل عشق في أرضي

ينفض عن قلبي غيمة

تومض في سمائي نجمة

عد.. في عيني ألف نجمة شوق تضيء

لك الطريق

الكلام ليس لي، بل هو جزء من قصيدة لشاعرة سعودية تجيد غزل الكلمات إلى عقود حب وألم واشتياق. الشاعرة هي صباح أبو عزة، والديوان «امرأة تهوى وحيدة» عن دار «آفاق». أما لماذا هذا المقطع بالذات، والديوان غني بالمعاني والموسيقى والإحساس، فلأن سنابل العشق نبتت وحملتني إلى مصر، حيث تومض في السماء ألف نجمة شوق أضاءت لي الطريق. أتعبني زحام القاهرة؛ فهربت إلى الفيوم أحمل بداخلي شوقا إلى مصر طفولتي، وحلماً استدرجني إليه محمد العشري، كاتب مصري كتب عن الفيوم إلى حيث كانت الطيور تهاجر طلبا للدفء، والحيتان تمرح في مياه المنخفض منذ آلاف السنين.

وصلنا إلى «أوبرج» الفيوم، الذي كان استراحة فخمة في زمن الملكية، كلما طاب للملك أن يخرج لصيد البط. في غرفة مطلة على بحيرة قارون الساكنة، شعرت بأنني اتخذت قرارا سعيدا. الحقيقة هي أن العشري لم يكن وحده مسؤولا عن استدراجي إلى الفيوم، بل استدرجتني إليها أيضا امرأة سويسرية سمعت اسمها منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما. سمعت بأنها زارت الفيوم وهي في حالة حب رومانسي أوصلها إلى الزواج بشاعر مصري. ذهبت معه إلي الفيوم؛ فعشقت المكان وقررت أن تبقي على عشق المكان، حتى بعد أن تراجع الحب، وانتهي بطلاقها من الشاعر. أقامت واندمجت، وأسست مدرسة لتعليم أبناء القرية المجاورة فن الخزف، وساعدت تلاميذها على تسويق منتجاتهم. وبعد سنوات، تزوجت سويسريا، وأقاما في الفيوم، حيث أنجبت، وكبر ولداها، وتزوجا، واتخذا من مصر وطنا.

انطلقت بحثا عن إيفلين، فهذا هو اسمها. وفي الطريق اكتشفت أن بيت إيفلين ليس البيت الوحيد الذي يسكنه فنان، فقد تبعها أكثر من فنان بنى بيتا لكي يعيش وينتج ويتقي شر المدن. في طرق القرية الترابية الملتوية تبعنا طفلة تركب بقرة قبل مغيب الشمس، عائدة من الحقل. سرنا على هدي البقرة وسرعتها إلى أن وصلت إلى بيتها، فسألنا عن بيت إيفلين، فأشارت إليه امرأة سمراء فرعونية الملامح.

حين طرقنا باب إيفلين، لم أكن أعرف ما ينتظرني بالتحديد، ولا ما يمكنني أن أقول إذا فُتح الباب. ولكنه فتح، ونزلت إيفلين من الدور العلوي، حيث تمارس فنها الخزفي. قلت لها إنني صحافية أتيت من لندن للقائها، مدفوعة بالفضول؛ ففتحت لنا معرض الخزف، واصطحبتنا إلى الحديقة الغنية بأشجار الفتنة المزهرة. فسألتها لماذا قررت البقاء في هذا المكان النائي البعيد عن الحضر؟، فقالت «حين نظرت إلى البحيرة، ومن خلفها الجبل ساعة غروب الشمس؛ همس قلبي بأنني وصلت إلى حيث أريد، فبقيت مع الناس الطيبين. الأولاد الذين أعلمهم «شطار»، وراغبون في التعلم».

في طريق العودة إلى الفندق نظرت إلى الحقول الخضراء، وإلى النخيل الباسقة وأشجار الزيتون. وفي لحظة أدركت أن ما بقي في الوجدان المصري من «سيمترية» وجمال ونظام، بقي في تلك الحقول، حيث الخطوط نظيفة ومستقيمة وكأنها خطت في الأرض وفقا لرسوم هندسية فائقة التطور - تماما كالأهرامات - وفي يوم ما سوف يستيقظ هذا الوجدان من سبات طويل، فينفض غيمة التراب عن القلوب؛ وتنبت سنابل عشق الأرض من جديد.