إلى رأفت محمود في «بريد الأهرام»

TT

يختلف «بريد الأهرام» عن سواه في صحف العالم، بأنه معرض لأفكار وطرائف ولطائف شعب متعدد الاهتمامات. وقد قرأت رسالة للقارئ م. رأفت محمود، يقول فيها إن المجلات العلمية ذكرت أفضل اختراعات القرن الماضي وفاتها أن تذكر أسوأها. والاختراع الأسوأ بالنسبة إليه هو مكبر الصوت الذي يوضع في حفلات الأفراح وفي سرادق العزاء وفي عربات الباعة المتجولين. ويشير إلى أنه انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة سرادقات التنجيد، حيث تعرض العروس المراتب (الفرش) والمخدات ويقام فيها حفل صاخب.

تحية طيبة إلى م. رأفت محمود. أنا أيضا أعتقد أن مكبر الصوت هو الاختراع الأسوأ، لكن بعد الصوت المرتفع بدون مكبر، وبعد الجار الذي ينتقي البرنامج الخطأ في الفضائية الخطأ، ثم يدير الصوت العالي صوب نافذتك لحظة القيلولة. وهناك، يا عزيزي رأفت، سوء فهم تاريخي عند العرب بين حميمية المشاعر وبين العراضة الصوتية. فليس ما هو أكثر حميمية من الحزن، أبعده الله، ومع ذلك نحوله إلى استعراض وندابات وإلى صراخ. وليس ما هو أمتع وأخص من الفرح، والمشاركة في الفرح جميلة، لكن إشراك الناس في الفرح بالإكراه، قلة أدب، أو قلة ذوق. ولست أعرف لماذا يصر المحتفلون بعرس أو خطوبة على إسماع جيرانهم طوال أسبوع ـ على الأقل ـ الأغاني التي لا يحبونها وأصوات جميع أنواع الطبول، أو لماذا لا تعلو الزغاريد إلا بعد منتصف الليل. وأنا عندي عقدة من مكبرات الصوت يمكن تسميتها، للاختصار، عقدة أحمد سعيد. أو أخي في عدن، أو أخي في نجران. والسبب أن الأستاذ أحمد قد سحرنا ذات مرحلة وأطربنا وملأنا آمالا. ثم ذات يوم كنت عند الحلاق. وعند وصولي إلى محله كان يحمل المشط بيد والموسي بيد أخرى. وفيما هو يجلسني على الكرسي قال لي راقصا ملوحا بالمشط والموسي: صاروا 80 طيارة. وقبل أن ينتهي من قص شعري (كانوا) قد أصبحوا 120 طيارة. وعفوا على العامية اللغوية. وعندما خرجت من عنده كان قد رمى المشط من يده ورفع الموسي يتوعد ما بقي من طيارات. وصوت الأستاذ أحمد يتجاوز المكبرات. وأخي في عدن. ووصلت إلى المكتب وصوت مكبر الصوت يملؤني مشاعر طربة. لقد انتهى الأمر. ارفع رأسك يا أخي. والباقي معروف. ويا عزيزي م. رأفت محمود، ذلك المساء طلينا الزجاج باللون الأزرق. وخفضنا أصواتنا. ولا أذكر ساعة ألم قومي عام أكثر من ساعة عرض علينا جمال عبد الناصر استقالته. لقد اكتشفنا، كما قال عبد الله القصيمي، أن العرب ظاهرة صوتية. ولولا هذا الاختراع السيئ، لعملنا في هدوء. وتوحدنا في هدوء. ورمينا جانبا هذه التنكة التي لا تزال تحرضنا على بعضنا البعض ولا تبث إلا الحقد والفرقة.