وكان ما كان مما لست أذكره!

TT

ليس صحيحا أن كل ما نفعله صادر عن العقل. يعنى فكرنا وحللنا وأعدنا التفكير ثم قررنا. غير صحيح. وإليك مثلا: كنت في باريس في أسوأ أيام البرد وفى أسوأ حالاتي النفسية. ولم أجد شيئا واحدا يخفف عني ما أعانيه: لا شيء ولا أحد ولا دواء ولا طبيب ولا مستشفى. وكل ذلك بالعقل ذهابا وإيابا وحسابا وضربا وطرحا. لا شيء. فالعقل ليس دولابا خشبيا أحطه على كتفي وله مفتاح صغير. وإذا فتحته خرجت حيوانات وطيور ضقت بها وضاقت بي. وليس عندي من وسيلة للتفريج عن النفس إلا المكتبات والنظر في الكتب الجديدة.. وبس!

وبالعقل قررت أن أذهب إلى ثلاث مكتبات متقاربة. وفجأة عدلت. وطلبت من السائق أن يتجه إلى حارة في حي الطلبة والجامعة ـ سان جومان دي بري.. اسم الشارع نسيته ولكن أعرف شكله، وقلت للسائق: هنا.. على اليسار.. ادخل وعلى اليمين.. ثم على اليسار وعند هذا التمثال توقف. وسوف أنزل أمشي على قدمي وانتظرني. وأنت في استطاعتك أن تذهب إلى مكان وتشرب قهوة وتعود بعد ساعة!

أما المكان فمكتبة قديمة. ولا أعرف من الذي يتردد عليها الآن.. ولا أعرف ما الذي سوف أشتريه. ليس مهماً ما أشتريه ولكن المهم هو هذا: إنني أسال عن مدام كارولين..

- أوه.. جميل أن أحدا لا يزال يسأل عنها.. إنها تركت هذا المكان. وهي في بيتها.

حاولت بالفعل أن أهدئ من دقات قلبي. أن أجعله يلتزم الأدب والاحترام. ولا أعرف كيف أتحكم فيه بعد ذلك..

وكانت كارولين. ومن تحت منظارها قالت: أوه ألا تزال تذكرني بعد أربعين عاما.. أهذه هي الفروسية العربية.. ليس مكاننا هنا.

وذهبنا. لا هي قالت ولا أنا قلت. وعدت. ولم يفلح عقلي أن يمسك جماح قلبي وقلبها أيضا.

وقال الشاعر القديم:

وكان ما كان مما لست أذكره..

فظن خيرا ولا تسأل عن السبب!