مميزات الركود الخفية

TT

يوجد نقاش أكاديمي ثانوي، ولكنه مشتعل، حول تأثير التراجع الاقتصادي على صحتك.

من وجهة النظر التقليدية، يمكن أن تتسبب البطالة في أنفلونزا الركود، وهي نوع من الذعر الذي يؤدي إلى التدخين بسبب الضغوط، والأغذية سريعة التحضير غير الصحية، وعلاج آخر لهذه الأنفلونزا يعد مشكلة في حد ذاته: الكحول. وقد ربطت دراسات أجريت بين الأزمات المالية الشخصية والإصابة بأمراض القلب والاكتئاب والانتحار.

ولكن توجد وجهة نظر مضادة غير متوقعة. بعد دراسة لبيانات عن الصحة العامة لعقود، أكد كريستوفر روم من جامعة كارولينا الشمالية في غرينسبورو أن الركود يزيد من مشكلات الصحة العقلية. ولكنه اكتشف أن الصحة البدنية تتحسن بالفعل، حيث تنخفض معدلات الوفيات بنصف نقطة أمام كل نقطة زيادة في معدل البطالة. وفي أثناء الفترات الاقتصادية الصعبة، يبدو أن الأشخاص يزيدون من التدريبات البدنية، ويذهبون في جولات أقل بالسيارة، ويقللون من التدخين، ويطهون وجبات صحية في المنزل، اختيارا منهم للسيطرة على الأشياء الباقية لهم في الحياة والتي يستطيعون أن يتحكموا فيها.

ويوجد نقاش مشابه حول تأثير الأوقات الاقتصادية العصيبة على الصحة الأخلاقية في الأمة. من دون شك تتركز أكثر القضايا الاجتماعية حدة، من جريمة إنجاب الأطفال غير الشرعيين وغيرها، في الأماكن التي بها أعلى نسب فقر. ولكن تأمل علماء الاجتماع والجريمة طويلا في تناقض واضح. ففي أثناء فترة الكساد الكبير، عندما كان حوالي ربع الأميركيين بلا عمل، انخفضت معدلات الجريمة والطلاق. وفي أثناء فترة الرخاء النسبي في الستينات والسبعينات، ارتفعت معدلات الجريمة والتفكك الأسري.

إن فترات الركود والكساد وحوش ضارية تطارد الأشخاص المهمشين، خاصة المتقاعدين والفقراء. وتوجد معاناة هائلة متأصلة في فترة الركود، ولكن من الممكن - على ما يبدو - أن تصبح أوقات الضغوط الاقتصادية فترات للتجديد الثقافي. ويقول جيمس كيو ويلسون: «أحد الافتراضات المعقولة هو أن الكساد جمع بين أفراد الأسرة، وهذا الترابط منع الجريمة». وقد اتبع كثير من الأميركيين، الذي صارعوا فترة الكساد، مجموعة من العادات الأخلاقية والاقتصادية، مثل الاقتصاد والالتزام الأسري والادخار والاستهلاك المعتدل، التي ظلت معهم طوال حياتهم، وقد اندثرت هذه العادات في حياتنا. لقد تحكم جيل الكساد الكبير في الأشياء التي استطاع السيطرة عليها، ومن بينها استهلاكه وشخصيته. ونحن نرى ملامح من هذا النوع من رد الفعل في فترة الركود التي نمر بها حاليا، والتي تظهر فيها مثل تلك القضايا الأخلاقية، حيث انفجرت فقاعة ضخمة منها الاقتراض غير المسؤول، والنزعة الاستهلاكية، والخوض في المخاطر من دون محاسبة. وفي أثناء الأزمة الاقتصادية، يعود الأميركيون إلى لغة الأخلاق. لعل الإفراط والتهور عيوب تستحق أن تكون وصمة اجتماعية. ولعل الاقتصاد في الإنفاق والحذر مميزات شخصية بالإضافة إلى أنها ممارسات تمنع حدوث الانهيار الاقتصادي. ولعل هناك فرق بين ضمان تحقيق احتياجاتنا والخضوع لسيطرة رغباتنا.

قد يكون من الصعب عليّ أن أوصي بالتقشف، وأنا أكتب على جهاز الكومبيوتر المحمول. ولكن يبدو أن العديد من الأميركيين، في هذا التراجع الاقتصادي، يجدون أن وسائل الترفيه الأقل تكلفة، مثل قضاء وقت مع الأسرة، أكثر نفعا، وأن تناول الوجبات في المطاعم الأنيقة ليس دائما أفضل، وأن الأعمال اليومية، مثل تنسيق الحديقة والعناية بالأبناء وصبغ الشعر، قد يكون من الأفضل القيام بها بأنفسهم بدلا من الاستعانة بآخرين. (ولكن في تعليق على هذا الاتجاه لـ«نيويورك تايمز»، حذر أحد مصففي الشعر: «إنهم يأتون في بعض الأحيان وقد صبغوا شعرهم باللون البرتقالي»)

وتزداد الشكوك بشدة حول النزعة الاستهلاكية بسبب الحقائق الاقتصادية، بالإضافة إلى المخاوف البيئية. ولكن أخيرا أصبح رفض مذهب المادية متأصلا في النظرة الروحانية للطبيعة الإنسانية. وقد حذر البابا يوحنا بولس الثاني من جعل «الناس عبيدا (للتملك) والإشباع الفوري، مع عدم وجود فكرة أخرى بخلاف مضاعفة أو استمرار إحلال الأشياء المملوكة لهم بالفعل مع وجود أشياء أخرى أفضل. ويوسع التوجه الأقل مادية (مع افتراض تلبية الاحتياجات المادية الأساسية) بالفعل من آفاقنا، ليكون النجاة من سجن رغباتنا الخاصة.

كان مصدر خوف دائم للرأسماليين، أن نجاح الأسواق الحرة سيعوق في النهاية القاعدة الأخلاقية التي تقوم عليها الأسواق الحرة، أي أن الرخاء المتفسخ سيقضي على قيم مثل الحذر والإشباع المؤجل. ويقول الخبير الاقتصادي جوزيف شومبيتر: «تشكل الرأسمالية إطارا خطيرا للعقل، والذي، بعد أن يدمر السلطة الأخلاقية في كثير من المؤسسات الأخرى، يتحول في النهاية إلى تدمير ذاته».

ولكن ربما تصحح الرأسمالية ذاتها في هذا المجال، كما تفعل في الكثير من المجالات الأخرى. ويسبب الركود معاناة يمكنها أن تتغلب على الأمل. ويمكنها أيضا أن تؤدي إلى إعادة اكتشاف المميزات التي تجعل الرخاء الدائم ممكنا، والتي تضيف ثراء غير مادي إلى حياتنا. ففي بعض الأحيان تأتي النعمة من باب غير متوقع.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»