محامي إسرائيل

TT

بعد سنوات من توقف عملية مدريد للسلام كتب أورن دافيد ميللر في جريدة الـ«واشنطن بوست» مقالا بعنوان «محامي إسرائيل» يقول فيه: «لمدة طويلة عمل أميركيون رسميون منخرطون في عملية السلام العربي ـ الإسرائيلي ـ بمن فيهم أنا، كمحام لإسرائيل، معبّرين عن وجهة نظرها ومنسقين معها على حساب مفاوضات سلام ناجحة». وأضاف: «إن نقطة الانطلاق في كل بند من بنود عملية السلام لم تكن ما هو الذي نحتاجه للتوصل إلى اتفاق سلام مقبول للطرفين، بل ما هو الذي يمكن تمريره مع طرف واحد، ألا وهو إسرائيل»، (الواشنطن بوست 23 مايو (أيار) 2005).

والقارئ لهذا الاعتراف الذي يندرج في إطار اعترافات التطهّر الذاتي «بعد خراب البصرة» يفهم، بدقة أشد، فحوى التصريحات الأميركية الحالية، ويتمكن من توقع ماذا سيأتي مع إدارة أوباما الجديدة، وما هي آفاق السلام، خاصة أن المبعوث لعملية السلام يصرح، قبل جولته الثانية إلى الشرق الأوسط، أن بلاده «ملتزمة بالحفاظ على التفوق الإسرائيلي العسكري (النوعي) في المنطقة»، رافضا الحكم على قضية المستوطنات اليهودية التي وصفها بأنها «مسألة مهمة، لكنها ليست الوحيدة».

تصريح ميتشيل هذا يتجاوز الصراع العربي ـ الإسرائيلي ليشمل إيران وتركيا وأي دولة في المنطقة، خاصة أن الدول المعنية هي دول مسلمة، قد تسوّل لها نفسها بتجاوز القدرات العسكرية الإسرائيلية أو حتى موازاتها في هذه القدرات.

هذه هي إذا السياسة المستقبلية للسنوات القادمة، أي العمل على نزع سلاح العرب، حتى الذين تقع أراضيهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومنع أي تغيير في موازين القوى في المنطقة كلها، من موريتانيا إلى إندونيسيا، الذي قد يلحق الضرر بالتفوق العسكري الإسرائيلي المطلق، أو قد يصب في مصلحة العرب.

وإذا اقترن هذا القول بما عبر عنه ميللر من أن كل المسؤولين الأميركيين الذين يعملون، أو عملوا في الماضي، من أجل التوصل إلى سلام، اعتبروا أن واجبهم هو حماية أمن إسرائيل، أي التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي، والتوصل إلى اتفاقات توافق عليها إسرائيل قبل أن تعرض على الطرف العربي، فإن الاستنتاج البديهي لهذين الأمرين يكون أن الأمل الوحيد لدى العرب والمسلمين في تغيير واقعهم المرير ومستقبلهم المهدد دوما بالعدوان والإخضاع، هو في أن يمتلكوا عوامل القوة التي تمكنهم من حماية حاضرهم وصياغة مستقبلهم، بغض النظر عما يرتأيه الآخرون لهم أو يحاولون إملاءه عليهم بطريقة أو بأخرى.

لذلك نجد في هذه المرحلة أن التركيز، كل التركيز، على من يمتلك السلاح، لأنه هو وحده الذي يمكن أن يغير في هذه المعادلة في المستقبل. المسألة إذا ليست مسألة حقوق وقوانين وشرعة دولية، بل مسألة «تفوق نوعي لإسرائيل» يمكنّها من قتل الأطفال والنساء والمدنيين واستخدام القنابل الفوسفورية والعنقودية، من دون أن يكون مقبولا حتى إدانة هذه الجرائم.

ولكن، وعلى الرغم من كل هذا الإرهاب الفكري والسياسي، فقد أخذت بوادر المعادلة تتغير على المستوى النظري والفكري على الأقل، وبدأ البعض في العالم يرون الأشياء بمنظار أكثر واقعية، على الرغم من محاولة إحكام التعتيم الإعلامي على كل جرائم إسرائيل.

ففي «منتدى أميركا والعالم الإسلامي» الذي أقامته مؤسسة «بروكنز» في الدوحة الأسبوع الماضي 14ـ16 /2/2009، تجد أن الباحثين والإعلاميين بدأوا يضيقون ذرعا باجترار عبارات الخوف على أمن إسرائيل أو عبارات الترويج للديمقراطية، التي توقع في المنطقة الحروب والقتل والتهجير، بحيث تلحظ في ندوات المؤتمر المختلفة التصفيق يعلو للكلمة الجريئة التي تسمي الأشياء بمسمياتها، بينما يحل الملل ومغادرة القاعة حين يتنطّح البعض للدفاع عن جرائم إسرائيل في فلسطين أو جرائم الولايات المتحدة في العراق.

وحتى في ندوة عن المهجرين العراقيين، التي وجدت لتبحث الوضع الإنساني للمهجرين وكيفية تقديم العون والمساعدة لهم، تحوّل النقاش إلى السبب الجوهري السياسي لأزمة خمسة ملايين عراقي هُجّروا من ديارهم، وأصبح الإصرار على محاسبة من تسبب بهذه الكارثة سيد الموقف، علما أن المفكرين والسياسيين قدموا من كل أصقاع الأرض.

هذه البداية في تحول الرأي العام العالمي لصالح العدالة والحقوق في العالم العربي بحاجة إلى من يغذيها ويقدم لها المعطيات ويرعاها ويسقيها ويروج لها، لأنها كفيلة، إذا ما استُثمرت، بإعادة موازين الحق إلى مكانها الطبيعي، بحيث يصبح من غير المقبول أن تكون البداية هي «الحفاظ على أمن إسرائيل» أو الحفاظ على «تفوقها النوعي»، بل تصبح البداية الحفاظ على حقوق البشر واحترام الكرامة الإنسانية، وتخليص المقهورين من نير الاحتلال والظلم والمهانة، ورفض التصرفات العنصرية التي تبيح لطرف ارتكاب كل أنواع الجرائم والمحارق ولا تتيح للطرف الآخر حق الدفاع عن النفس في وجه الظلم والطغيان. ولكن، وإلى أن نصل إلى تلك البداية المهمة، لا بد من أن ننظر في عوامل الضعف الذاتية التي تسمح لكل من يدعم «إسرائيل» أن يتصرف وفق أهوائه من دون رادع ومن دون وجل، وأول عوامل الضعف هذه هو العامل الفكري والمعلوماتي، الذي قصّر فيه العرب والمسلمون تقصيرا ذريعا في هذه الحقبة من تاريخهم. فعلى الرغم من أن أعداءهم يرتكبون أبشع أنواع الممارسات بحقهم، نراهم يسارعون في الوقت نفسه، قبل، وخلال، وبعد ارتكاب الجريمة، إلى إعادة صياغة الواقع، بحيث يصورون المعتدي الإسرائيلي وكأنه الضحية ويصورون ضحايا جرائمهم من الأطفال والأمهات والمدنيين العرب وكأنهم إرهابيون ومعتدون.

ومع أن العرب هم الذين علّموا العالم فن القصّ، وهم الذين حملوا رسالة الإسلام إلى كل بقاع الدنيا، فهم اليوم يبدون عاجزين حتى عن تصوير آلامهم، أو الحديث المقنع عن أبعاد الظلم الذي يحل بهم، وتناقض الممارسات الدولية ضدهم مع كل الشرائع والأخلاق والأسس التي يدّعي الغرب أنها جزء أساسي من حضارته. فمع أننا كنا منذ سنوات لا نقبل أن يشار للعرب والإسرائيليين على أنهم «طرفان»، وذلك لأن طرفا يحتل أرضا، بينما الطرف الثاني أرضه محتلة، ها هو أرون ميللر يقول إن المسؤولين الأميركيين لم يتعاملوا أبدا مع طرفين بل مع طرف واحد، إسرائيل طبعا، وبما يحقق مصالحها وأطماعها في اغتصاب المزيد من أرض العرب، وفي فرض المزيد من إرادتها على القرار السياسي الرسمي العربي.

اليوم عندما نحضر مؤتمرا مثل مؤتمر «أميركا والعالم الإسلامي» أو أي مؤتمر آخر، نجد مئات الأبحاث التي أعدها «محامون غير معلنين» لإسرائيل ليقابلهم نصف الجمهور العربي والمسلم على الأقل بالإعجاب والتصفيق ويتفق معهم في مسائل تمسّ سيادتهم المستقبلية.

حين يكون المتلقي جاهلاً بخفايا الأمور، أو غير معنيّ بجوهر القضية، أو يكون مؤدلجاً ليؤمن بتفوق أعدائه على أمته، أو مسلوب الإرادة ليدعم عدوان عدوه على أشقائه، فإنه يصبح محاميا من نوع خاص يستشهد عدوّه بتأييده له ضد أشقائه. الخطوات التحضيرية للبداية المرتجاة لا بد أن تتضمن وضوحا في الرؤية، وفرز العدو من الصديق، والعميل عن الشهيد، ولا بد من أن يعيد العرب والمسلمون الاعتبار لامتلاك أدوات القوة، وأولى هذه الأدوات، الأداة المعرفية والفكرية والرؤية، بحيث ننتج الخبر والفكر والمعرفة والصورة التي تؤيد قضايانا ونكتشف محاميي إسرائيل وهم في مسرح العمليات، سواء أكانوا من الناطقين بالضاد، أم من غيرهم، لا أن ننتظر حتى يطهّروا ضمائرهم بالكتابة عن أنفسهم بعد فوات الأوان!.

www.bouthainashaaban.com