دوامة الكلام المجاني.. والأكلاف العالية

TT

ليس هناك ما هو أسهل من خداع النفس. فما يتمناه المرء يتصور أنه حقيقة.

(ديموستين)

واشنطن المنشغلة في مستهل عهدها الرئاسي الجديد بنفض غبار إرث جورج بوش الثقيل، لا تلام إذا بدت مرتبكة بعض الشيء. ولا يعاب عليها أن تكون لها مقارباتها الخاصة، وبالتالي، بصماتها المختلفة عما قدمته رئاسة بوش «الابن» إلى العالم من كوارث في مختلف المجالات.

وإيران، بعد التجارب الطويلة السيئة مع واشنطن، لها الحق هي الأخرى أن تشك بنيات الغرب تجاهها، فتقرر انتهاج سياسة «الهجوم خير وسائل الدفاع» ولو أدى ذلك إلى خلق عداوات مريرة مع محيطها الإسلامي، هي - منطقيا - في غنى عنها. وآخر الغيث تجديد المطالبة بالبحرين.

وإسرائيل، التي بنيت «ثقافتها السياسية» على عقدتين متضاربتين، هما: الاستعلاء على جيرانها، والخوف منهم، تمضي قدما - عبر صناديق الاقتراع - في رحلة الهروب من السلام الحقيقي إلى عبثية «الخلاص الانتحاري».

وتركيا، حيث حلم «السلطنة» الكامن، تخرج تدريجيا من سطوة ردة الفعل «الكمالية» على عالم عربي وإسلامي «جاحد» و«متآمر» لتجد أمامها ملعبا فسيحا، ربما كان ينتظر منها أكثر مما تستطيع تقديمه له اليوم من ملاذ يقيه تهديدي «مطرقة» إسرائيل و«سندان» إيران.

ضمن هذا «المربع» تواصل دمشق لعبتها المفضلة.

تواصل العبث، والمشاغبة، وتقديم الوعود، واستدراج العروض وفق استراتيجية «الشيء وعكسه» التي أجادتها طيلة أربعة عقود.

ثمة من يقول إن «اللعبة» باتت مكشوفة.

هذا ما قاله خلال الأسبوع الماضي، ولو بشيء من الدبلوماسية المهذبة في بيروت، السيناتور جون كيري، المرشح الرئاسي الديمقراطي السابق والرئيس الحالي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي.

كلام كيري عن أن إدارة باراك أوباما تعرف جيدا مواقف دمشق وهي تحاورها «من دون أوهام»، كلام يجب أن يقلق القيادة في دمشق، إذا كان يحمل أي وزن. وأيضا يجب أن يقلقها امتناعه ليس فقط عن زيارة رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه بري، أعلى شخصية شيعية رسمية في جهاز السلطة اللبنانية، بل تجاهله كذلك الالتقاء بوزير الخارجية فوزي صلوح، الشيعي المحسوب على الرئيس بري.

كلام برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي خلال الأسبوع الماضي أيضا له دلالاته، إذا كان صادقا. فنهج الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي «الانقلابي» على سياسة سلفه جاك شيراك الشرق الأوسطية، ولا سيما في الشأن اللبناني، جاء «بردا وسلاما» على القيادة السورية وطابخي سياسة «الممانعة» اللفظية، في ظل التفاوض الفعلي مع إسرائيل. ولقد أدت سياسة ساركوزي، بالذات، عبر معاونه المقرب كلود غيان، ذي العلاقات الشرق أوسطية الخاصة، إلى نسف كل مقومات الردع المعنوي والسياسي المأمول أن يمنع دمشق من السعي مجددا إلى تفجير لبنان من الداخل.

لكن كوشنير، تنبه أخيرا إلى أن دمشق أحجمت حتى الساعة عن تعيين سفير لها في بيروت، على الرغم من فتحها «سفارة»، كما أنها تواصل تجاهل موضوع ترسيم الحدود عند مزارع شبعا. ومن هنا جاء كلامه التحذيري اللافت. بل لقد استوقفت هاتان القضيتان، بالذات، مفوضة العلاقات الخارجية الأوروبية بيتينا فيريرو فالدنر عندما زارت دمشق في الأسبوع الماضي، وأثارتهما مع المسؤولين السوريين.

الطريف في الموضوع حقا رد الإعلام الحكومي السوري على هذا «التنبه» الأميركي والأوروبي للعبة دمشق المستقوية دائما بحاجة إسرائيل والغرب لبقاء النظام. فصحيفة «الثورة» السورية الرسمية اعتبرت في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي أنه لا يحق «للعالم كله» التدخل في شؤونها السيادية، وأن لا أحد يفرض على أي دولة تعيين سفير لها لدى أي بلد، لأن قرار تعيين سفير أو سحبه إنما هو «حق سيادي لكل بلد يمارسه متى يشاء».

ولكن، نسيت الصحيفة، على ما يبدو، أنه كان لسورية عشرات الآلاف من الجنود دخلوا إلى لبنان بضوء أخضر عربي ودولي وإسرائيلي عام 1976، سواء بذريعة وقف الحرب الأهلية أو تصفية المقاومة الفلسطينية. ثم تحول الوجود العسكري والأمني والسياسي، مع الأسف، إلى سلطة احتلال فعلي تتحكم في كل مفاصل الحياة في لبنان، من القضاء والتربية والتعليم، إلى الإعلام والاقتصاد والسلاح الشرعي وغير الشرعي.

وبالتالي، فتوقع المجتمع الدولي من دمشق في ظل القرار 1559 تعيين سفير لدى لبنان لا علاقة له بـ«سيادة» سورية أو تبعيتها. فلدمشق أن تسحب سفيرها في أوزبكستان أو تغلق سفارتها في نيوزيلندا، لأن هذا شأن داخلي. لكن بعد كل الذي حدث في لبنان ما عادت القضية هنا «سيادية» ، إلا إذا كان لدى دمشق ضمانات جديدة من المجتمع الدولي، أو بعضه، على الرغم من شبه الإجماع على إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.

الشق الآخر، من الالتباس الذي يثيره الكلام المجاني يتصل بإيران.

هنا أيضا، التلميحات والوصفات كثيرة ومتضاربة في واشنطن حول التصدي للطموح الإيراني السياسي والنووي أو التعايش معه. ولكن في الحصيلة النهائية لا مفر من قول ما يلي:

- على واشنطن، إذا كانت قادرة، أن تصارح الشعب الأميركي والمجتمع الدولي وسكان منطقة الشرق الأوسط بحقيقة استراتيجيتها إزاء الطموح الإيراني.

- أخذ العامل الزمني في الاعتبار له أهميته - وخطورته - القصوى في رسم الاستراتيجية، إذا كانت لم ترسم بعد.

- الصراع الإقليمي يتفاقم في الشرق الأوسط، بسبب حلول الهويات و«الأصوليات» الدينية والمذهبية محل جدليات اليسار واليمين. وعليه، لن يكون باستطاعة واشنطن الهروب من الخيارات الصعبة. كما لن يكون بمقدورها خداع أي من الأطراف المحليين بعد الآن.

- المنظور السياسي الشرق الأوسطي لـ«يهود الحزب الديمقراطي» عنصر خطير ومقلق للغاية في سلبيته ومقامرته بمصير الأقليات، على الرغم من حرصه اللفظي على مصالحها، وما يظهره من ضيقه من استمرار زحف الناخب الإسرائيلي نحو اليمين المتشدد. فهل هو حقا ضد «الهلال الشيعيستاني»؟