رثاء الزين

TT

هناك شخصيات بلغت القامة والمعنى حتى أصبحت رمزا لبلادها، فلا يمكن أن يذكر لبنان دون ذكر فيروز، ولا أن تذكر أم كلثوم دون ذكر مصر، ولا نزار قباني دون ذكر سورية. والسودان كان من ضمن هذه الدول، و«رمزها» كان الروائي الراحل الكبير «الطيب صالح». رحل هذا الرجل الاستثنائي عن عالمنا منذ أيام، ولكن سيظل جزءا من الذاكرة الأدبية العربية لزمن طويل.

كان رجلا بسيطا، ولكنه كان غزير المعرفة، واسع الاطلاع، كريم النفس، شديد التواضع. إنتاجه الأدبي والفكري الغزير مكن له من تأمين الانتشار المطلوب، فعرفه كل العرب عن طريق المطبوعات الصحفية المكتوبة بصحفها ومجلاتها، ولكن بقيت إصداراته الروائية هي التي علقت في ذاكرة الناس، وكانت محور حديثهم عن الكاتب الراحل. وأهمها بطبيعة الحال، هي رائعته الأشهر «موسم الهجرة للشمال»، وهي تتحدث عن العلاقة التصادمية بين الغرب والشرق بشكل مبسط وغير معقد، ولكنه مفعم بالواقعية المبهرة.

كذلك تحدثت رواياته الأخرى مثل «عرس الزين» و«مريود» و«ضوء البيت» و«دومة ود حامد» و« منسي» عن علاقة التراث بالحداثة، والقبلية والمدنية، والمدينة والقرية، والأسطورة والتراث. اهتم الطيب صالح في كتاباته بمد الجسور وبناء المعرفة ما بين الاتجاهات المختلفة، فكان ينقل المعلومة ليزيل الجهل والغموض، اللذين يخيفان ويعزلان ويقوقعان المتلقي، برز ذلك بوضوح من خلال عموده الصحفي في مجلة «المجلة» الذي كان ثريا ومتنوعا. حتى حياته الإدارية عكست التنوع والثراء، الذي ميز حياته، فهو تنقل في مناصب لافتة ومهمة في كل من لندن في الـ«بي بي سي» ثم عاد للسودان وبعدها انتقل إلى قطر في وزارة الإعلام بها، وبعدها عاد إلى أوروبا، وتحديدا إلى باريس في منظمة اليونسكو. وكان التنقل المستمر بين الشرق والغرب هو الذي أكسب الطيب صالح رؤيته المتسعة الشاملة، وقدرته على الحكم على المسائل والأشخاص بحسب «الصورة الكبيرة» مع إحسان ظن كبير فيهم. التقيته مرة في مكتبة الإسكندرية بالقاهرة، خلال مؤتمر عقد هناك، ولفت نظري صمته الاعتراضي على بعض ما ذكر في إحدى الجلسات، وبعدها سألته عن رأيه في أحد المواضيع التي طرحت بالجلسة، فابتسم وقال لي: «يا حسين داير أقول أشياء كثيرة بس تعبت». لا توجد شخصيات كثيرة في العالم العربي بلغت مقام «الطيب صالح»؛ من ناحية نوعية الإنتاج ومكانة الاحترام عند القاعدة الجماهيرية في مختلف أنحاء الدول العربية، ولكنْ هناك اعتقاد كبير ومحق في أن أعمال الطيب صالح لم تلق التقدير المطلوب والجدارة المطلوبة للآن، فلم تنعكس على الشاشة الكبيرة وعلى الشاشة الصغيرة إلا في صور ضعيفة ومتواضعة للغاية.

شخصية الراحل أسرت القلوب وأجبرت الكل على احترامها بأدبه وأخلاقه وفكره، حتى حكومته التي «عارضته» دون أن يعارضها وحاولت منع كتبه في السودان، إلا الشعب قال كلمته وتراجعت الحكومة عن قرارها بعد إحراج لا داعي له، وتصدر الرئيس البشير المصلين في يوم وداعه كرد اعتبار رمزي جميل لشخصية لها من اسمها النصيب الكبير.

رحل الطيب والصالح، فالرحمة له بإذن الله. سنفتقدك أيها الشامخ دوما.

[email protected]