أوباما و«الجهاديات»: حوار من ثقب الباب

TT

أميركا مأساة دولية. منذ فرانكلين روزفلت إلى باراك أوباما، فلكل رئيس أميركي حربه. إذا كان العراق حرب بوش، فأفغانستان مرشحة لأن تكون حرب أوباما التي بدأها أيضا سلفه بوش.

كان الغرض الاستراتيجي الأميركي في معارك الحرب الباردة واضحا، وهو استيعاب «الخطر الشيوعي». في الحروب الأخيرة، حل العالمان العربي والإسلامي محل العالم الشيوعي كـ«بعبع» استراتيجي يخيف المراهقة باربي الساذجة. اخترعت أميركا «قاعدة» ابن لادن لتخويف المخرف بريجنيف، فباتت هي أسيرة الكابوس القاعدي والطالباني.

لكي يغلّف بوش حربه «الصليبية»، فقد خاضها تحت قناع استراتيجي مضلل: «الحرب ضد الإرهاب». نجاح بوش الوحيد في هذه الحرب البائسة كان في عولمة العنوان. باتت «الحرب ضد الإرهاب» ثقافة شعبية أميركية مقبولة عالميا، كإدمان البيبسي والكولا وماكدونالدز وقطط وفئران ديزني. اعتنق الكبار والصغار حرب بوش. عندما يسير عربي في شارع أوروبي، فهو يثير الدهشة والعجب، إذا كان بلا لحية أبي قتادة، وشارب أبي محجن.

أوباما اعتذر عن بوش. منذ ترشُّحه إلى تنصيبه، أرسل إشارات تصالحية إلى العرب والمسلمين. اعترف بأن غزو بوش لهم كان خطأ في خطأ، لكن أوباما استعار من بوش خوذته، وذهب ليتابع الحرب الخطأ في أفغانستان. إذا لم تكن هذه النقلة من العراق إلى أفغانستان «حربا على الإرهاب»، فبماذا يمكن وصفها وتسميتها؟ الحرب كالحب. صاح نزار: «ما أصعب أن تحب امرأة بلا عنوان». أيضا ما أصعب أن تخوض حربا بلا عنوان!

حرب بلا عنوان هي حرب بلا استراتيجية. حرب بلا استراتيجية هي حرب غامضة الأهداف، متناقضة في الأغراض. قد يسجل أوباما انتصارا في أفغانستان، لكن لن يكسب ثقة وتعاطف العالم الإسلامي. في التفاصيل، يقول روبرت غيتس وزير حرب أوباما ما معناه أن تحقيق التنمية والرفاهية والديمقراطية في بلد فقير ومتخلف كأفغانستان، أمر مستحيل! لا بد، إذن، من تحقيق النصر العسكري أولا، في تناقضات إدارة أوباما، فهي تواصل الحرب، وتجري الحوار من ثقب الباب مع طالبان، لمصالحتها وإشراكها في حكومة كرزاي.

لخّص بوش العلاقة مع الإسلام في استراتيجية «الحرب ضد الإرهاب». في غياب استراتيجية أوباما، فهو يمارس حربا مكشوفة ضد «جهادية» طالبان. ثم يمارس حوارا خجولا معها من ثقب الباب، ومع جناح طالبان المعتدل. الطرافة أن إدارة أوباما تكتشف أن نظام كرزاي «دولة مخدّراتية» غارقة في الفساد. هذا الاكتشاف المتأخر يعزز أوراق طالبان في حوار ثقب الباب. فكيف تقبل بالانخراط في حكومة كرزاي الموصومة بالاتهام؟

بعض رجال أوباما يعزون هذا الخلط المتناقض إلى انتقال المرشح «المثالي» أوباما إلي الرئيس «البراغماتي» أوباما. وهكذا، فمثالية أوباما استدعت مصالحة المسلمين، واسترضاءهم بإغلاق غوانتانامو والسجون السرية في الخارج، ومنع التعذيب، ووقف المحاكمة العسكرية لـ«الجهاديين»، وإجراء حوار مع بعض الجهاديات.

أما واقعية أوباما فتقتضي، حسب هؤلاء، استمرار تسفير جهاديي غوانتانامو إلى «بلد المنشأ»، تماما كما فعل بوش عندما أعاد بعضهم، من دون ضمانات جدية بعدم تعذيبهم أو تصفيتهم وإعدامهم، عندما أمسك بوش بـ«الجهادي» السوري/الكندي ماهر عرار لدي مروره العاثر بمطار أميركي، فقد شحنه إلى صديقه اللدود بشار. الرئيس السوري أنزل ضيفه المسكين في فندق بلا نجوم تحت الأرض لمدة تقرب من سنة. بعد التحقيق والتعذيب، تبين أن ماهر جهادي بريء، فأطلق بشار سراحه كحمامة طارت من بلد المنشأ إلى بلد الملجأ.

ما هو أشد خطرا من الحوار مع طالبان، هو مشروع حوار أوباما مع إيران. غياب الاستراتيجية يجعل الرئيس الأميركي مترددا: هل يحاور نجاد، أم ينتظر الرئيس خاتمي؟ في غمرة التردد تستأسد إيران على أميركا. نجاد يطالبها بالاعتذار. القمر التجسسي الإيراني يقرأ أفكار سيد البيت الأبيض، فتتصاعد المطالب التعجيزية. إيران تريد الاعتراف بمصالحها الحيوية، بدءا من مشاركة أميركا في «حماية» أمن الخليج، إلى انتزاع اعتراف أميركي باختراق المشرق العربي، في سورية ولبنان وغزة.

الغطرسة الإيرانية تهدد الأمن القومي العربي. أعلن مسؤولون إيرانيون البحرين محافظة إيرانية! عندما أغضب الطمع الفارسي السعوديين، اضطرت إيران إلى التراجع، لكن على لسان ناطق في وزارة الخارجية لا يوازى في الرتبة والأهمية المسؤولين المطالبين بالبحرين. أريد هنا أن أسأل أجنحة الشيعة البحرينية التي تدبّ الصوت ضدّ تجنيس عرب مقيمين منذ أمد بعيد في البحرين، لماذا لا يدبّون الصوت أيضا ضد «تجنيس» البحرين بالجنسية الإيرانية؟

يبقي المشروع النووي الإيراني محك اختبار لإدارة أوباما. هيلاري وزيرة خارجية أوباما قالت للكونغرس إن القنبلة الإيرانية «أمر غير مقبول». عندما كانت هيلاري مرشحة منافسة لرئيسها هددت بمحو إيران من الخريطة إذا حاولت قصف إسرائيل بها.

حوار أميركا مع «جهادية» بشار يبدو أكثر سرعة وحرارة، من الحوار مع الجهاديتين الطالبانية والإيرانية. الحوار مع سورية من الشبّاك، وليس من ثقب الباب. تقدم زوّار دمشق الأميركيين جون كيري المرشح الرئاسي الأسبق والرئيس الحالي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. غير أن بشار يبدو قلقا، بعد تأييد إدارة أوباما لجدّية محكمة الحريري الدولية. لعل تأخير تسمية وتسفير أول سفير سوري إلى لبنان، هو من باب المساومة على لائحة الاتهام. هل تشمل اللائحة رجال المخابرات، أم تطال رجال دائرة القرار المحيطة ببشار؟

حماس حالة حوارية عجيبة. زار كيري غزة. نصح حماس علنا بتغيير سلوكها. يقصد انتقالها إلى «الجهاد السياسي» بدلا من الجهاد الصاروخي. حماس رحبت بالزيارة. دفعت إلى كيري من ثقب الباب برسالة إلى أوباما. الزيارة الأميركية رفيعة المستوي لوطن حماس تعتبر اعترافا صامتا بإمارة غزة الإخوانية، لكن من غير كلام وحوار، علي الأقل في الوقت الراهن. تبقي مشكلة حماس في تقديمها الحزب على الوطن، العقيدة على القضية.

إذا لم ينجح غزل نيتانياهو مع ليفنى، فهو قادم على رأس حكومة يمينية ضيقة. حكومة ترفع اللاءات الثلاث: لا انسحاب، لا وقف للاستيطان، لا دولة فلسطينية. هيلاري تقوم بدور كوندوليزا بتشجيع حماس على استئناف المفاوضات. ماذا يبقى لعباس؟ كلما حاور ازداد ضعفا، وازدادت حماس قوة.

قد تسألني، أيها القارئ العزيز، ما تصورك كاستراتيجية مفيدة لأوباما في التعامل مع جهاديات العرب والعجم؟ أجيب: إذا كان أسامة حالة قاعدية ميؤوسًا منها، فتقديم الحرب على التنمية خطأ استراتيجي كبير. نشر الوعي. توسيع الطبقة الوسطى. تربية جيل إسلامي جديد أعمق ثقافة وتسامحا... هو السبيل الوحيد لمكافحة طالبان والقاعدة. القوة العسكرية للردع، وليست للإغارة علي البيوت والفتك بمائة مدني آمن، من أجل قتل طالباني أو قاعدي واحد مختبئ بينهم. ثم الادعاء بأن أميركا تفتح صفحة سلمية جديدة مع العالمين العربي والإسلامي.