ماذا جرى للحرب ضد الإرهاب؟!

TT

رؤساء الولايات المتحدة لهم حظوظ مختلفة، وربما كان الأكثر حظا هو بيل كلينتون الذي جاء إلى البيت الأبيض لكي يجد أن الحرب الباردة انتهت، والاقتصاد الأمريكي يخرج من انكماش قصير، والثورة التكنولوجية آخذة طريقها بسرعات خرافية، وما عرف بالثورة الديمقراطية تنتشر في العالم طولا وعرضا، والأمم المتحدة تعقد مؤتمرات لكي تنظم أحوال العالم من جديد، ولم يكن صعبا ساعتها عند مطلع التسعينيات من القرن الماضي الحديث عن نظام عالمي جديد. في تلك الأيام كانت روسيا الخارجة توا من موقف الدولة العظمى «لطيفة» للغاية، ومستسلمة إلى الدرجة التي حكمها رئيس سكير مع تحالف للمافيا، وأصبحت موسكو تحت رحمة المعونات الغربية، أما حلفاؤها فقد تدافعوا في اتجاه واشنطن يطلبون البركة، وحتى العرب والإسرائيليون الذين لا يتفقون على شيء، كانوا قد حضروا توا مؤتمر مدريد وعلى استعداد لعملية سلام طويلة الأمد.

قارن ذلك كله بما وجده باراك أوباما عند وصوله إلى البيت الأبيض، حيث الأزمة العالمية المالية والاقتصادية خانقة، والصناعات والخدمات الأمريكية تتهاوى الواحدة منها بعد الأخرى، ولا يدري أحد عما إذا كان الواجب هو دعمها والحفاظ عليها، أو أن الموقف الصحيح يطالب بأن تترك المؤسسات العاجزة لعجزها، بحيث لا يبقى منها إلا الأصلح والقادر على المنافسة. وفي الخارج فإن روسيا أصبحت لها أظافر طويلة، وخرجت توا من عملية غزو لجورجيا، ويبدو العرب والإسرائيليون على غير استعداد للاتفاق على شيء، وبشكل ما فإن الدنيا كلها تبدو مقبلة على أزمات خانقة لا يوجد لدى أمريكا طاقة عسكرية للتدخل، ولا قدرة مالية للإنفاق عليها.

وربما لم يكن في الأمر كله حظوظ، وإنما هي عملية جدل تاريخي واسع ينقل العالم من إدارة إلى أخرى، ولكن نصيب أوباما جاء في تلك اللحظة الزمنية التي تبدو فيها المأساة العالمية والمحلية وقد تطابقتا في زمن نادر. وفي الأسبوع الماضي، انتهى باراك أوباما من حزمته المالية لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، وبات عليه الانتظار لكي يرى إلى أي حد سوف تنجح النقود والاعتمادات فيما لم تنجح فيه المؤسسات من قبل، وفي الطريق إلى ذلك، وبعد السوابق التي كانت لتوفير السيولة للبنوك مرة وتشجيع الطلب مرة، فإن الدور سوف يأتي قريبا لكي يجري التحفيز للمصانع التي قد تكون صناعة السيارات في أولها، ولكنه سوف تتلوها بالتأكيد صناعات أخرى كثيرة. ولكن كل ذلك قد يكون ممكنا التعامل معه بشكل أو بآخر، ولكن الكارثة الكبرى التي على أوباما، وربما نحن أيضا، هو التعامل الوشيك مع ما حدث في الحرب العظمى ضد الإرهاب. ولا ينبغي لأحد أن ينسى أن صاحبنا في البيت الأبيض قد أقام حملته الانتخابية على أن جورج بوش ارتكب خطأ فاحشا عندما لم يركز الحرب على «القاعدة» في أفغانستان، حيث انطلقت منها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلى العراق، حيث لم يكن هناك لا صلة ولا علاقة مع الإرهاب ولا حتى قنابل ذرية. وكان وعد أوباما أنه سوف يعود إلى المسرح الأصلي، وينقل القوات من بغداد إلى كابول حيث يجب أن تكون في مواجهة من قاموا بالهجوم على أمريكا، وما زالوا يهددونها، ومعها بقية العالم، وحيث توجد أكبر فرص التحالفات الدولية من أول حلف الأطلنطي وحتى دول أخرى تتفق على ضرورة القضاء على جذور الإرهاب.

المشكلة هنا أن أوباما ربما يكون قد وصل متأخرا للغاية، لأن الحالة في أفغانستان لم تعد كما كانت عند بداية المعارك في خريف عام 2001 عندما سقطت كابول، وتمت الإطاحة بنظام طالبان، ووضع تنظيم القاعدة في جبال تورا بورا حتى تم حصره، ومعه أخطاره، في جبال باكستان الشمالية، بل كان هناك من لديهم ما يكفي من التفاؤل لبناء دولة ديمقراطية حديثة في أكثر بلدان العالم الإسلامي تخلفا. الآن لم يبق الكثير من كل ذلك، وببساطة عادت طالبان لكي تسيطر على 72% من أفغانستان بصفة دائمة، وحتى العاصمة كابول أصبحت مخترقة من قبل قوات طالبان عبر بواباتها الأربعة، وباتت كل الطرق الرئيسية محفوفة بالمخاطر، وتوطد تحالف طالبان مع قوات حكمتيار وحقاني وهم من بقايا جيوش فترة الجهاد ضد السوفيت. وكأن كل ذلك ليس كافيا، فجاءت عمليات انهيار متتابعة في باكستان التي ازدهرت طالبانها هي الأخرى، وباتت مناطقها الشمالية منعزلة عن الحكومة الاتحادية، أما بلوشستان ما بين أفغانستان وباكستان فباتت هي الأخرى من المناطق المتمردة. ولذلك لم يكن الجنرال جيم جونز - مستشار الأمن القومي الأمريكي الجديد في إدارة أوباما - مخطئا عندما قال أمام مجلس الشئون الخارجية الأمريكي، إنه لا ينبغي أن يكون هناك وهم بأن حلف الأطلنطي يكسب الحرب في أفغانستان.

ما الذي يستطيع أوباما فعله أمام حرب خاسرة في وقت أزمة اقتصادية طاحنة، وبعد أن وعد الأمريكيين بالانسحاب من العراق؛ وما الذي يؤدي إليه كل ذلك بالنسبة للتوازن الدولي، ومصير القوة العظمى الوحيدة فيه؛ وربما الأهم من ذلك كله ما هي نتائج ذلك كله بالنسبة لقضية الشرق الأوسط بعد أن انتخب الإسرائيليون نتنياهو وليبرمان لكي يقودا إسرائيل في هذه المرحلة؟ والحقيقة أن خيارات الرئيس الأمريكي قد باتت كلها محدودة بأكثر من أي وقت مضى، وربما كان الخيار الأول المطروح أمامه هو خفض الأهداف الأمريكية من القضاء على الإرهاب كله، وإعادة بناء أفغانستان، إلى القضاء على تنظيم القاعدة وحده باعتباره التنظيم الذي قام بالإعداد وتنفيذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وفي رأي بعض العسكريين الأمريكيين أن هذه المهمة وحدها ممكنة إذا ما ركزت الولايات المتحدة على منطقة واحدة، وهي منطقة شمال باكستان من خلال عمليات تقوم بها قوات خاصة مدربة وكثيفة بما فيها الكفاية، وبعدها تعلن الولايات المتحدة النصر وتخرج من أفغانستان وتتركها لمصيرها الذي تختاره. والخيار الثاني سوف يكون مزيدا من الدعم والاعتماد على باكستان التي كان لها نصيب في خلق طالبان منذ بدايتها الأولى، فضلا عن وجود مصلحة مباشرة لها لخلق تفاهم مع طالبان في صورتها الباكستانية والأفغانية تستبعد تنظيم القاعدة وتقضي على تحركاته العالمية. والخيار الثالث هو خلق منظومة دولية جديدة للتعامل مع الظاهرة الإرهابية الأفغانية تضم كل الدول التي تشعر بالتهديد، وفيها كل دول آسيا الوسطى وروسيا والصين وحتى الهند التي التاعت مؤخرا من الاعتداءات التي جرت على مومباي. كل من هذه الخيارات له ثمنه المادي والسياسي والاستراتيجي، وربما لم يجد أوباما من سبيل إلى الاختيار إلا بعد أن يوفر بعضا من قواه من خلال الانسحاب من العراق، وتوفير قدر من التفاهم مع إيران التي لها مصلحة في دولة غير طالبانية في أفغانستان، ودولة على درجة من الاستقرار في العراق. وضمن هذا الإطار يجري التفاهم الاستراتيجي مع كل القوى الرئيسية في العالم الإسلامي بدءا من إندونيسيا في الشرق، وحتى نصل إلى تركيا ومصر والسعودية في الشرق الأوسط، على تعاملات جديدة مع مشكلات المنطقة المزمنة وفي المقدمة منها المشكلة الإرهابية.

هذه الصورة سوف تكون جديدة نوعا على الولايات المتحدة، حيث التفاهم وإعادة بناء العلاقات الاستراتيجية في لحظة أمريكية أقل غطرسة ورعونة، ربما لن يكون مفهوما كثيرا من دول تعاملت خلال السنوات الثماني الماضية مع إدارة جورج بوش. وربما كان أوباما غير محظوظ بين الرؤساء الأمريكيين، إلا أنه لن يسمح بمزيد من التدهور في الموقف الأمريكي في العالم، أو يغامر بحدوث انقلاب في توازن القوى العالمي، ومن أجل ذلك سوف يخلق فرصا متعددة لمن يحسب مصالحه الاستراتيجية بعناية. وليس معلوما حتى الآن عما إذا كانت الحكومات العربية قد أدركت التغييرات الجارية في واشنطن أم أنها كما هي العادة لا تزال تنتظر الخطوة الأولى من الولايات المتحدة؛ ولكن ربما آن الأوان ولو لمرة واحدة أن نفعل ما لم نعتد عليه من قبل؟!