في وداع الكبار..

TT

الموت سنة من سنن الخالق في هذا الكون، فهو التذكار الدائم بأن دوام الحال من المحال وأن البقاء لله عز وجل وحده. ولوداع «الكبار» وقع خاص في النفوس، يستشعر وقت تلقي الخبر، ومن ثم مع تفاعل الناس مع الخبر. ومنذ أيام قليلة مضت استشعر بذلك الأمر قطاع الأعمال في المملكة العربية السعودية حين فجع بوفاة عبد الله الحقيل، ومن بعده سليمان القصيبي. عبد الله الحقيل رحل عن دنيانا بعد صراع طويل مع مرض عضال، واجهه وحاول مقاومته بكل بسالة، ويرحل عنا وذكراه الطيبة تسكن النفوس، وسيرته تروى بامتنان. وأتذكر آخر لقاء جمعني معه كان في مطار الرياض، تبادلنا حديثا سريعا وكعادته كان يبدي تعليقه ورأيه في أحد المواضيع الاقتصادية والابتسامة لا تفارق محياه. كان كريما في خلقه ومترفعا في أسلوبه، تعامل مع التحديات بحكمة فكسب احترام الناس. وبعده بأيام رحل عن دنيانا الشيخ سليمان القصيبي، وهو كان ينتمي إلى جيل «خاص جدا» أسس كبرى الشركات بالسعودية ووضع لبنات اقتصاد بلاده عبر ترسية قيم ومبادئ وأخلاق باتت أهم عناصر الثروة وصناعتها. لن أتطرق هنا عن المؤشر الاقتصادي للشيخ سليمان القصيبي فمساحاته معروفة ومن الممكن الاطلاع عليها وبالتالي معرفتها، ولكن الأهم وما لا ينال نفس القسط من الحديث هو المؤشر الأخلاقي، وهذه قصة يجب وتستحق أن تروى. كان للرجل مساهمات خيرية «جميلة» ومتنوعة، تتشعب ما بين العمل الخيري التقليدي لإعانة المساكين والفقراء، إلى تأسيس عدد غير قليل من المؤسسات والجمعيات الخيرية، وهو بذلك يشبه أخاه الراحل الكبير عبد العزيز القصيبي، الذي لا يزال الناس تترحم عليه وعلى مآثره حتى اليوم. ودائما في هذه المواقف الحزينة يذكر موقف أسرته الكريمة حينما طلبوا من محبيه الراغبين في نشر التعازي بالصحف التبرع بقيمة ذلك لجمعيات خيرية، مما حولها إلى سنة حسنة تتبع وتنفذ الآن من قبل أسرة الراحل سليمان القصيبي. حتى النشاط الرياضي كان للشيخ سليمان الأثر فيه بترؤسه الشرفي لنادي القادسية.

كان الشيخ سليمان ينتمي إلى جيل «مختلف»، جيل عرف العصامية كنهج حياتي وأسلوب عملي، فقدر النعمة وحافظ عليها، صنع ذلك بفضل الله مع شقيقيه أحمد وعبد العزيز رحمهما الله وأكمل بعدهما. هناك إشكالية كبيرة دائما ما تواجه رجال الأعمال اليوم، وهي أنه مطالب «بالتضحية» بواجباته الاجتماعية والأسرية في سبيل تحقيق الطموح المالي! وغالبا ما يسقط الكثير في هذا السؤال الموجع، ولذلك تأتي دروس الأجيال «الكبيرة» مقاما وإنجازا مهمة وشديدة البلاغة لأنها تقدم الرد العملي، في أن النجاح ممكن أن يتحقق بتوازن مليء بالرضا فلا ضرر ولا ضرار، ودائما ما تصاب الأسر بالقلق والخوف حين وفاة «عميدها»، فهناك ذعر من التفكك وانعدام التواصل من بعده، إلا أن الرهان يبقى معقودا على الجذور الأصيلة والمعادن القوية والتربة الخصبة التي تلقت القيم والعبر النبيلة. ولست بحاجة لتعرف «معنى» رجل مثل سليمان القصيبي، لأن تقرأ مقالات ونشرات، فالآراء البسيطة قادرة أن تنقل إلينا صورا وعناوين كفيلة بتحقيق المعنى، فها هو رجل من الأردن خدم معه أكثر من ثلاثين عاما يعلق بقوله: «لقد رحل الإخوة الثلاثة بحسب ترتيبهم العمري، وكأن الاحترام بينهم مؤسسي وباق حتى آخر لحظة»، ويعلق عليه رجل من مصر كان من الموجودين يقول: «أصلي معه الجمع ولا أنسى تواصله مع الناس وتواضعه معهم بكل بساطة وأريحية»، ويضيف شخص ثالث من السودان بنبرة مطمئنة فيقول: «لا خوف أدعو له بالرحمة، فرجل أنجب مثل داود لم يمت». ليست أهم المعايير ولا أبرز المؤشرات ولا أدق القياسات هي الثروة المالية ولا القيمة الاقتصادية، ولكن هناك مؤشرا أبلغ وأدق وأهم وهو محبة الناس، فهي مسألة قلما تلقى الإجماع. بقدر ما يوجد حزن داخل النفوس وغصة في القلوب لوداع الأحباب إلا أن الشعور بالفخر لوجود شخصيات «كبيرة» كهذه بيننا كتب على من كان معها معاشرتها والاستفادة منها، فلا بد أن يكون هذا شعورا خاصا ومختلفا. السير الحسنة مثل الجبال تبقى شامخة على الأرض ودليلا لمن يأتي بعدها ويعتبر منها. عبد الله الحقيل وسليمان القصيبي «شخصيتان جميلتان» رحلا عن دنيانا وترحم الناس عليهما يحف حولهما، وذكراهما عطرة بالخير والثناء.. «شخصيتان» تستحقان منا الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة. والكثيرون سيشتاقون لهما.

[email protected]