استقلال لبنان.. والإملاءات الأميركية

TT

كثرة الموفدين الأميركيين إلى بيروت ودمشق في مطلع عهد الإدارة الديمقراطية الجديدة، تضعها سورية في خانة تبليغ «الإملاءات» على دول المنطقة. ولكن حرص واشنطن على إقران زيارة لبنان بزيارة سورية في جولات «الإملاءات» تعطي بعض المصداقية لما يتردد في واشنطن عن توجه إدارة الرئيس باراك أوباما إلى صياغة استراتيجية ثنائية تجاه البلدين، تأخذ في الحسبان ما يمكن وصفه بـ«الاستقلال الثاني» للبنان.

بعد سنوات من تغييبه كرقم خاص في معادلات المنطقة، هل بدأ لبنان في أخذ موقع ذاتي – ولا نقول مستقل بعد - في دبلوماسية واشنطن الشرق أوسطية؟

من المبكر حسم هذا التساؤل الآن، وان كانت تصرفات الإدارة الأميركية الديمقراطية توحي بأن لبنان أصبح «حاضرا» على قائمة اهتماماتها الإقليمية ككيان سياسي «واعد» إذا أكمل مسيرة انتفاضته الديمقراطية، و«مقلق» إذا انهار تحت وطأة التحديات الإقليمية والميليشيوية لديمقراطيته.

جولة وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، الآسيوية أظهرت حرص الإدارة الديمقراطية على تأكيد تمايز سياستها الخارجية عن سياسة الإدارة الجمهورية السابقة، إن لم يكن بالمضمون، فعلى الأقل بالأسلوب. ولكن هل يشمل هذا التمايز، في المنطقة العربية، التعامل مع أزماتها واحدة واحدة؟

يوم طرحت إدارة جورج بوش شعار «الشرق الأوسط الجديد» عنوانا عريضا لتعاملها مع دول المنطقة كان المأخذ الرئيسي على شعارها تجاهله لخاصية مجتمعات المنطقة، وبالتالي اعتبارها كلها نسخا متجانسة ومتكاملة لمجتمع عربي واحد لا تمايز يذكر داخل رابطته القومية. قد لا يصح إدراج الثنائية الأميركية المستجدة على أسلوب التعامل مع سورية ولبنان في خانة العودة عن مقاربة دول الشرق الأوسط بما يمكن تسميته بـ«سياسة الجملة». مع ذلك يشكل اعتراف واشنطن بـ«الخاصية اللبنانية» نقلة نوعية تسجل لإدارة الرئيس أوباما، خصوصا في حال تكريسها كإحدى ثوابت الدبلوماسية الأميركية تجاه سورية ولبنان. ولكن، إذا كان ذلك يحمل اللبنانيين أنفسهم مسؤولية الحفاظ على خاصيتهم الاجتماعية – السياسية داخل الأسرة العربية (كشرط أساسي لتعزيز استقلالهم الثاني) فإنه يستدعي، بالمقابل، دعما أميركيا جديا للمؤسسة الأقدر على صيانة هذا الاستقلال، أي المؤسسة العسكرية، عبر برنامج تسليح مدروس يؤدي إلى رفع قدراتها إلى مستوى المؤسسة العسكرية الأقوى على أرض لبنان. مؤسف، في دولة ديمقراطية النظام، أن لا تكون الجهة الرسمية الضامنة لخاصيتها هي المؤسسة الأم لهذا النظام، أي المجلس النيابي الذي تحول، في أحسن حالاته، إلى مجلس مللي يتمتع بحق التشريع، وفي أسوأها إلى ورقة ضغط على النظام... من داخل النظام. وبصرف النظر عن إجماع القوى السياسية في لبنان على وصف الانتخابات النيابية المقبلة بـ«المصيرية»، فإن مصير لبنان المستقل والمتميز في حرياته عن دول الجوار لم يكن يوما أمانة في عهدة مؤسسته العسكرية كما هو اليوم.

ربما تدرك واشنطن، من خلال زيارات مبعوثيها المدنيين والعسكريين إلى لبنان، الدور الخاص الذي يلعبه الجيش في لبنان. ولكنها لم تظهر حتى الآن استعدادها لترجمة اعترافها باستقلال لبنان السياسي بدعم يذكر للعمود الفقري لهذا الاستقلال – الجيش... لا على صعيد تسليح الجيش ولا على صعيد تطوير نوعية سلاحه، نتيجة «مراعاتها» لإسرائيل أكثر من تخوفها من سقوط السلاح الأميركي بأيدي حزب الله. من مفارقات المرحلة أن تتطابق إملاءات الدبلوماسية الأميركية، جزئيا، مع مصلحة لبنان في الحفاظ على استقلاله وخاصيته. ولكن تأكيد رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، جون كيري، أن «المطلوب» من لبنان، التطبيق الكامل للقرار 1701، ومن ضمنه جمع سلاح حزب الله، لا يمكن أن يصبح مسؤولية لبنانية منفردة، ما لم يكن مدعوما من جيش قادر على قلب المعادلة الراهنة للازدواجية العسكرية على أرض لبنان واحتواء «الحالة الميليشيوية» فيه... من دون الحاجة إلى خوض مواجهة عسكرية. وإذا كان يجوز الافتراض بأن «بعض الدولة» في لبنان يعي البعد السياسي المؤثر للمؤسسة العسكرية - بدليل سعيها الدؤوب لإيجاد مصادر موثوقة لتسليح الجيش في إطار الإمكانات المالية المحدودة للدولة – فإن السؤال الذي يوجه لموفدي الإدارة الأميركية إلى لبنان يبقى: ماذا فعلت واشنطن لمساعدة لبنان على الاستقلال؟