المنافسة تحتدم داخل طهران يوما بعد يوم

TT

رغم أنه من المقرر ألا تبدأ الحملة الانتخابية الرئاسية الإيرانية حتى نهاية مايو (أيار)، فقد بات هناك أمران مؤكدان بالفعل: أولهما أن الحملة قد بدأت بالفعل، وثانيهما أنها تتسم هذه المرة بقدر غير اعتيادي من القذارة. ومن المتوقع أن نشهد الفترة القادمة غسل أكوام من الملابس القذرة علانية، بما يؤثر على عدد من الشخصيات الكبرى داخل النظام. حتى «المرشد الأعلى» علي خامنئي، الذي حرص حتى الآن على البقاء خارج دائرة الوحل، يجري جذبه إليها.

وانطلقت الرصاصة الأولى في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما نشرت وكالة الأنباء الإسلامية الرسمية، الخاضعة لسيطرة الرئيس محمود أحمدي نجاد، مقالا من 5000 كلمة يهاجم محمد خاتمي، الرئيس السابق الذي أعلن ترشحه في الانتخابات الرئاسية القادمة، المقرر إجراؤها في يونيو (حزيران).

حمل المقال توقيع بايام فضلي - نجاد، وزعم أن خاتمي يشكل محور مؤامرة دولية لإنهاء الثورة الخومينية وتحويل الجمهورية الإسلامية إلى دولة علمانية.

وطبقا لما يراه فضلي - نجاد فإن ما يدعى «مجموعة بيلدربرغ» صاغت «مؤامرة» في أثناء حضور خاتمي أحد اجتماعاتهم السنوية في منتجع برتغالي، وادعى المقال أن المجموعة تعد جزءا من الحركة الماسونية العالمية، وتمثل مصالح مالية ودوائر سياسية تستغلها «كحكومة سرية تدير العالم».

ومع أن مزاعم فضلي - نجاد من الممكن رفضها باعتبارها محض هراء، نجد أصداء لها داخل إيران، الأمر الذي يعود بصورة جزئية إلى تاريخ طويل من ارتباط الملالي بالحركة الماسونية. على سبيل المثال، أسس الإصلاحي الإسلامي جمال الدين أسد - عبادي، المعروف لدى العرب باسم الأفغاني، أول مقر للحركة الماسونية في إيران في القرن التاسع عشر. كما ترأس سيد حسن إمامي، إمام صلاة الجمعة في طهران بين عامي 1955 و1979، مقرا آخر للماسونيين عُرف باسم «الإخوان».

وبتشجيع واضح من جانب مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، مضى كاتب المقال قدما في نشر كتاب كامل حول ما يزعم أنه «خطط سرية لإسقاط الجمهورية الإسلامية من خلال التخريب الناعم». يحمل الكتاب عنوان «فرسان الناتو الثقافي»، ويحوي عددا من الصور والنسخ لوثائق سرية مزعومة تكشف «مؤامرات» مزعومة من المفترض أن حكومة الولايات المتحدة لعبت دورا كبيرا فيها.

ويورد الكتاب أسماء شخصيات نشطة على صعيد المعارضة الداخلية باعتبارها متورطة في «المؤامرة»، وتعمل لصالح وكالات الاستخبارات التابعة للولايات المتحدة والدول الأخرى الأعضاء في حلف الناتو. وتتضمن القائمة أسماء بارزة من سياسيين وصحفيين ومحامين ونشطاء معنيين بحقوق الإنسان، يحاولون معارضة النظام دون الخروج عليه.

أما الرسالة التي يحملها الكتاب فواضحة تماما: أن المعسكر المعروف باسم «الإصلاحي» ليس سوى حصان طروادة أميركي، تم خلقه من أجل تدمير النظام الخوميني.

في الأسبوع الماضي أشارت وكالة الأنباء الرسمية بطهران إلى أن الكتاب، الذي نشرته مجموعة كيهان، صدرت منه طبعة عاشرة، وأصبح من أكثر الكتب مبيعا داخل البلاد. وتدّعي مصادر إيرانية أن مكانة أفضل الكتب مبيعا التي وصل إليها الكتاب تحققت بفضل الحكومة التي اشترت آلاف النسخ لتوزيعها مجانا على موظفيها وأعضاء الحرس الثوري الإسلامي.

في مقدمة الكتاب يزعم حسين شارياتماداري، رئيس تحرير كيهان، أنه يحوي «أدلة دامغة على وجود اتصالات بين أبرز عناصر هذه المجموعة ووكالات استخبارات أجنبية». ويبدو أنه يتجاهل أن ادعاءه هذا يثير تساؤلا جوهريا: إذا كانت هناك «أدلة دامغة»، لماذا لم توجه السلطات إذن اتهامات ضد من وردت أسماؤهم في الكتاب؟

على الجانب الآخر جاءت استجابة المتهمين الأسبوع الماضي خلال اجتماع داخل منزل آية الله عبد الله نوري، وزير الداخلية السابق الذي يعتبر بوجه عام أهم منتقدي النظام من داخل المؤسسة الخومينية، في أثناء الاجتماع الذي حضره ما يزيد على 200 من الشخصيات «الإصلاحية» من مختلف الأطياف، ندد جميع المتحدثين بحملة التشويه التي ينظمها مكتب خامنئي، بل ووصل الأمر بأحد المتحدثين، وهو هاشم أغجاري، أحد أبطال الحرب ضد العراق، إلى التنديد بخامنئي تحديدا والدعوة إلى إلغاء منصب «المرشد الأعلى».

وبعد أيام قلائل واجه خامنئي تهمة أكبر في إطار هجوم شنه ضده محمد سازغارا، المساعد السابق لـ«المرشد الأعلى» وأحد أبناء الجيل الأول من الحرس الثوري الإسلامي. كان سازغارا قد تعرض لاتهامات بالعمل لحساب الاستخبارات الأميركية، ورد على ذلك بادعاء أن خامنئي نفسه كانت له اتصالات بوكالة الاستخبارات التابعة للاتحاد السوفيتي السابق، المعروفة اختصارا باسم كيه جي بي، وكذلك فرعها في ألمانيا الشرقية المعروف باسم ستاسي.

وفي خطاب مفتوح موجّه إلى خامنئي نشرته المواقع «الإصلاحية» على شبكة الإنترنت، ادعى سازغارا أن ادعاءه السابق يقوم على وثائق بالغة السرية تخص وكالة الاستخبارات الألمانية الشرقية (ستاسي)، وفّرتها الحكومة الألمانية لأغراض البحث. وطبقا لسازغارا فإن هذه الوثائق تجري دراستها من قِبل «باحث شاب إيراني»، وبمجرد الانتهاء من تحليلها فإنها قد تكشف أن خامنئي كان عميلا سوفيتيا مهما خلال فترة حرجة من صراع القوى خلال السنوات الأولى من الثورة.

قد تكون مزاعم سازغارا محض خيال كتلك التي أشار إليها فضلي - نجاد، خصوصا أنه لم يكن من الخفي وجود اتصالات بين خامنئي ومسؤولين سوفيت في ذلك الوقت. وباعتباره نائب وزير الدفاع آنذاك تحمّل خامنئي مسؤولية ضمان الحصول على أسلحة من الاتحاد السوفيتي السابق في وقت فرضت الولايات المتحدة، جهة الإمداد الرئيسية بالأسلحة لإيران، حظرا على البلاد.

ولا تكمن أهمية الاتهامات المتبادلة بين الجانبين في أنها قد تعكس الحقيقة، فهذا بالتأكيد غير صحيح، فخاتمي ليس عميلا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وخامنئي لم يعمل لحساب السوفيت، وإنما تتركز أهمية هذه الاتهامات في عاملين: أولهما أنها تشير إلى أن صراع القوى داخل إيران ربما كان في طريقه نحو توجهات جديدة أكثر خطورة. وثانيهما أنها تكشف أن كلا المعسكرين عاجز على القتال على أساس خطط سياسية واقتصادية محددة، ويلجأ بدلا من ذلك إلى نمط الهجمات الشخصية المميز للحياة السياسية في الشرق الأوسط، وتبادل الاتهامات بـ«الخيانة» و«العمل لصالح استخبارات أجنبية».

والواضح أن هذه الحملة ستشهد الكثير من تقاذف الوحل، لكن ما تحتاجه إيران بحق هو عقد نقاش جاد حول مستقبلها في فترة ربما تكون الأخطر في تاريخها المعاصر.