إعمار غزة.. وإعمار المبادرة العربية!

TT

عندما بدأ التجاذب بين حماس والسلطة الفلسطينية بعد نهاية الهجوم الإسرائيلي على غزة بيومين، بشأن مَن يتولى إدارة أموال الإعمار، قال المصريون للفريقين: لا نريد أن نعمّر غزة اليوم، لكي تعود فتنهدم غدا. لا بد أن تتفقوا على إقامة حكومة وحدة وطنية، وهي التي تتولى إدارة الإعمار!

وقد اجتمع وزراء خارجية ومالية الدول الخليجية قبل أيام، وأقروا إقامة صندوق بإشراف البنك الإسلامي للتنمية، من أجل الإعمار. وها هي الولايات المتحدة تقول إنها ستتبرع بـ900 مليون دولار من أجل الأمر ذاته.

بيد أن التركيز على جمع المال من أجل الإعمار، والتركيز على ضرورة المصالحة بين الفلسطينيين؛ ليسا نهاية المطاف أو بدايته، وإن تكن لهما الأولوية. بل إن البداية والنهاية في إمكان استمرار عملية السلام الهادفة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذه المسألة لا تتم إلا بتوافق الفلسطينيين، أو نكون نتفاوض فيما بيننا على تقسيم الـ20% الباقية من أرض فلسطين على الشراذم الفلسطينية، ويا دار ما دخلك شر، ويا فرحة إسرائيل! ولذا ينبغي التوجه لتأمّل المسائل ومراجعتها استنادا إلى رؤية أخرى، ذلك أن القرارات الدولية والمبادرة العربية للسلام، معا، إنما كان هدفهما ولا يزال الوصول إلى الدولة وتسوية مسألة اللاجئين. وقد كان ذلك ممكنا - بعد وفاة ياسر عرفات - حتى عام 2007، لو أن الإسرائيليين كانوا يريدون السلام، فقد قالوا دائما، أو منذ عام 2000، إن عرفات هو العقبة في طريق السلام. وقد أرادوا جميعا إضعافه بالإصرار على تعيين رئيس حكومة، هو الذي يتولى الشأن الإداري، وقالوا في الوقت نفسه إنهم يقبلون بالتفاوض مع أبو مازن ولا يريدون التفاوض مع عرفات؛ باعتبار أنه كان أساسيا في مفاوضات أوسلو. وها هو أبو مازن يقبع في رام الله منذ قرابة أربع سنوات، ومع ذلك فإن شارون وبعده أولمرت لم يهتما، فانسحبوا من غزة من طرف واحد ودون قبول للتفاوض مع أبو مازن، ثم عادوا فكرروا أنهم يقبلون بالتفاوض معه، ويقبلون بالمبادرة العربية للسلام. ومع ذلك فإن أولمرت الذي قال ذلك كله، أهدى إلى بوش في آخِر ولايته المذبحة الفظيعة في غزة!

وقد مرت ثماني سنوات طِوال على الفلسطينيين وعلى العرب، وما حدث شيء إلا في اتجاهات التردي. وفي حين كان البوشيون موافقين على كل ما قامت به إسرائيل، فإن الأوروبيين جرجروا أنفسهم من وراء شارون وأولمرت، بحيث بقي الموقف الإسرائيلي مغطى حتى خلال الإغارة على غزة. وها هي حكومة اليمين الإسرائيلي توشك أن تتكون برئاسة نتنياهو، وما لم يتم في عهود باراك وشارون وأولمرت لن يتم في عهد نتنياهو.

ولذا فإن المقاربة العربية الأخرى تعني بعد اتفاق الفلسطينيين الاتجاه إلى المؤسسات الدولية، وإلى الأميركيين والأوروبيين، وليس من أجل العودة إلى هذه الآلية أو تلك في المفاوضات، بل في الأساس من أجل مطالبتهم بالوفاء بتعهداتهم وتعهدات مجلس الأمن. فالمبادرة العربية للسلام، كما قال الملك عبد الله بن عبد العزيز، لن تبقى على الطاولة إلى الأبد. فإما أن تحصل المبادلة الكبرى بين العرب والمجتمع الدولي على أساس القرارات الدولية والمبادرة العربية، أو لا حاجة لاستمرار المبادرة في الإعلام وفي المنتديات الإقليمية والدولية. ذلك أن تشدد الإسرائيليين وتخاذل الدوليين تسببا حتى الآن في مآسٍ كبرى للشعب الفلسطيني، وأظهر العرب بوصفهم هم الذين يهادنون ويعطون، في حين لا يعطي الإسرائيليون شيئا!

هناك إذن المبادرة العربية، وهناك الأميركيون والدوليون، وهناك القرارات الدولية، ومع ذلك فإن المذابح الإسرائيلية مستمرة. وعندما اجتمع الخليجيون بالرياض تحدثوا عن إدارة أموال الإعمار، لكنهم تحدثوا أيضا عن المبادرة العربية ووضع استراتيجيات وبدائل، ومن ضمن ذلك التفكير في فوائد الإصرار على المبادرة العربية ما دامت الأطراف الأخرى لسان حالها يقول: «يعطيك من طرف اللسان حلاوة». وسينعقد في شرم الشيخ يوم 2/3/2009 مؤتمر عربي ودولي، وهذا منبر صالح مع رفعة مَن يشاركون فيه لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته. وفي كل الأحوال فإن القرار لا ينبغي أن يتجاوز القمة العربية بالدوحة في أواخر آذار، وهذا منبر ملائم للتفكير في استراتيجيات أخرى، إذا لم تكن هناك تعهدات قوية من جانب الأميركيين والأوروبيين بالعودة إلى العملية السلمية، وبهدف إقامة الدولة الفلسطينية.

والواقع أن التخاذل أو التواطؤ الدوليين ما كانا وحيدين فيما يعاني منه الفلسطينيون، بل إنهم عانوا أيضا من انقسامهم هم أنفسهم، كما عانوا من عدم الجدية لدى بعض الأطراف العربية. فالدول التي اجتمعت بالدوحة فيما عرف بقمة غزة، ودعت لإسقاط المبادرة العربية، ما قامت بإجراء آخر من أي نوع لاجتراح استراتيجية أُخرى ما دامت استراتيجية المبادرة ما عادت نافعة، ولذا فقد كان الاكتفاء بتثبيت الانقسام بأي شكل دليلا لا يُدحض على أن المقصود كان الانقسام ولا شيء غيره. أما الآن فما دامت المصالحة تتقدم خطوات وإن بطيئة، فإن المصارحة العربية - العربية ضرورية لكي يكون كل شيء واضحا: المصارحة بين العرب أنفسهم، والانطلاق موحدين للتعامل مع المجتمع الدولي على أساس الإجماع العربي، سواء على إبقاء المبادرة لمدة محدودة أو على إيقافها لأن الطرف الآخر لا يستجيب. فبالإضافة إلى كلام الملك عبد الله بن عبد العزيز أنها ليست باقية على الطاولة إلى الأبد، كان الأمير سعود الفيصل قد قال في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اجتماع القمة الخليجي بالرياض: «إن المبادرة كانت مفيدة من الناحية الدبلوماسية، وليقُل لي من يريد إلغاءها ما هي البدائل؟».

وهكذا يتردد في الأوساط الدبلوماسية الأوروبية أن العرب يعتبرون عام 2009 عاما حاسما لجهة الخيارات والبدائل. وهم يستعدون للقمة العربية بالدوحة بالأمور التالية: المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، والمصالحة العربية - العربية، والمشروع المشترك الذي يضع المبادرة في سياق محدد ومحدود، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته بطريقة تجعل من التراجع أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. وإذا كان الدوليون لا يعرفون بالضبط ماذا يريدون من الإسرائيليين والعرب، فإن العرب يعرفون بالضبط ماذا يريدون: تحرير الأرض العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية.

ولأن الدوليين يعرفون أن الكيل بالعرب قد طفح، فقد تعددت التحركات في ثلاثة اتجاهات: فالأميركيون أرسلوا مبعوثهم إلى المنطقة جورج ميتشل، ويقال إنه سيقيم بالقدس إلى حين التوصل إلى عقد المفاوضات. والروس يسعَون لعقد المؤتمر الدولي في الربيع، حسبما جرى الاتفاق عليه في أبابوليس. والطريف أن الفرنسيين يفعلون الشيء نفسه، دون أن يتضح ما معنى ذلك، فقد وافقوا من قبل على أن يكون المؤتمر العتيد بموسكو! وهاتان الفكرتان ليستا تفصيلا، فالأفضل عقد مؤتمر موسكو لأن عليه إجماعا، إنما الأهم ماذا نريد من المؤتمر، وكيف يمكن تحقيق ما نريده منه.

وفي النهاية فإن «الصفقة» التي يُراد إبرامها هي ذات معنى كبير، لأنها تحدد علائق الشراكة وهل تستحق المتابعة أم لا. فالعرب يؤدون ما عليهم وأكثر ومنذ زمن طويل، ومشكلات المنطقة وعلى رأسها قيام دولة إسرائيل هي من صناعة غربية، وإذا كان يُراد للعلاقة أن تستقيم فلا بد أن تجد هذه المشكلة الكبيرة حلا ملائما، أو يستمر الاضطراب الذي تسببت في اشتعال مرحلته الأخيرة الولايات المتحدة نفسها!

هناك إذن المبادرة والشراكة والمسؤوليات، وهي جميعا في الميزان، ولا بد لنهر الدم الفلسطيني أن يتوقف، أو تستمر الكارثة على الجميع.