تشافيز العربي

TT

سمت جارتي ابنها الوحيد الذي رزقته بعد يأس وطول انتظار «تشافيز»، تيمنا «بالرجل الذي طرد اليهود تضامنا مع أبناء غزة عندما تقاعس العرب» حسب قولها.

ليست جارتي نشازا في الساحة العربية التي احتفت على نطاق واسع بتشافيز إلى حد أنه أصبح أحد أبطال الأمة المغاوير الذين يلهج الشعراء بمدحهم والخطباء بالدعوة لهم على المنابر، ويحمل المتظاهرون صورهم في الشوارع. والواقع أن تشافيز على الرغم من انتمائه الفنزويلي ووصوله للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع أقرب لنموذج معروف من حكامنا هم الزعماء الشعبويون الذين يرفعون شعارات الثورة والتمرد والعداء للإمبريالية والاستعمار دون أفق سياسي وتنموي حقيقي ودون خلفية إستراتيجية دقيقة في التعامل مع الرهانات الدولية.

لمثل هذا النموذج خصائص ثلاث تبدو جلية في شخصية تشافيز:

أولا: الخطابة العاطفية بديلا عن البرهنة والعقلنة. فالمعروف أن تشافيز خطيب مفوه، لا يمل من الكلام، إلى حد أن الملك الإسباني خوان كارلوس المعروف بأدبه الجم صرخ في وجهه في اجتماع علني «أليس بمقدورك أن تصمت؟». ولتشافيز برنامج أسبوعي مفتوح في التلفزيون الفنزويلي قد يصل أحيانا إلى سبع ساعات متواصلة من الحديث، وقد كشفت دراسة منشورة عام 2008 أن الرجل خصص 2544 ساعة منذ وصوله للسلطة للحديث في وسائل الإعلام السمعية البصرية، أي ما قدره 318 يوما من أيام العمل، مما تجاوز كل الأرقام القياسية منذ ظهور الأجهزة الإذاعية. وإذا كانت الخطابة ليست خاصية للزعماء الشعبويين وحدهم، باعتبار أن بعض الحكام الديمقراطيين العقلانيين عرفوا أيضا بالبلاغة وجمالية التعبير كما هو شأن ابراهام لنكلون في أمريكا و الجنرال ديغول في فرنسا، إلا أن دور الخطابة هنا هو التأجيج العاطفي والتعبئة الشعاراتية لتمويه الإشكالات القائمة وصرف النظر عن التحديات الحقيقية المسكوت عنها.

ثانيا: ادعاء التماهي مع الأمة وروح الشعب لسد منافذ التعبير المناوئة وتكميم أفواه المعارضة. فتشافيز الذي يكاد يحتكر الحديث في الإعلام العمومي لا يخفي امتعاضه من النقد، ولا يتردد في اتهام الصحافيين المستقلين بأعداء الثورة وخونة الشعب، كما أنه استخدم شرعية الانتخاب لإقصاء الخصوم وإضعافهم بحيث تبدو فنزويلا أقرب لنهج «الديمقراطية السيادية» بمفهوم الرئيس الروسي السابق بوتين أي النظام السلطوي الأحادي المتدعم بالآليات الإجرائية للانتخاب التعددي.

ثالثا: الفساد المالي والإداري سمة ملازمة للنموذج الشعبوي الذي يرفع الشعار الثوري الراديكالي. فالمعروف أن فنزويلا من أكثر بلدان العالم فسادا، وفيها تستشري الرشوة على نطاق واسع، في الوقت الذي يستخدم تشافيز الريع النفطي لشراء الذمم في الداخل وتعزيز النفوذ في المحيط اللاتيني الأمريكي وفي تصدير «الثورة البوليفارية» التي يدعي الاستناد لها.

أدرك تشافيز كم نطرب لنعت أمريكا بالشيطان ووصف اليهود بأنهم «حفنة من المرابين الطغاة الذين أفسدوا العالم»، كما نبتسم راضين لهجومه الشخصي على الرئيس الأمريكي السابق الذي أطلق عليه تسميات عديدة بـ«الكاذب» و«المستبد» و«السكير» داعيا إلى نقل هيئة الأمم المتحدة من نيويورك وإلى خروج بلدان العالم الثالث من صندوق النقد الدولي.

يكشف لنا نموذج تشافيز عن درسين أساسيين يستحقان التأمل في عالمنا العربي:

أولهما: أن الأنظمة الشعبوية الأحادية قادرة على التأقلم مع الشرعية الانتخابية التي لا تستوعب المنظور الديمقراطي بل هي فقط أداته الإجرائية. فعلى الرغم من واقع التعددية الحزبية وانتظام الاستحقاقات الانتخابية في فنزويلا، لم تتغير تركيبة نظام الحكم الذي لا يزال في العمق استبداديا مغلقا (على غرار الأنظمة العسكرية السابقة) وإن تغيرت واجهته المؤسسية. والخطر القائم هنا هو افتكاك الفاعلية الشرعية للديمقراطية لسد منافذ التغيير السلمي لغياب أي أفق حقيقي للتناوب على السلطة الذي هو غائية أي ممارسة ديمقراطية.

ثانيا: من السهل انتزاع التأييد الشعبي الواسع عن طريق الخطابة الاستفزازية والراديكالية التي تصدر عن منطق «أخلاق القناعة» بدل «أخلاق المسؤولية» (حسب اصطلاحات ماكس فيبر). والخطر القائم هنا هو أن هذه المواقف التي هي في الغالب رمزية لا تترتب عليها آثار عينية ملموسة، تحول الفعل السياسي إلى رهان عاطفي يحجب تعقيدات الوضع و إكراهاته.

من حق تشافيز على العرب شكره على الموقف الفروسي من محنة غزة، بيد أن عليهم الحذر كل الحذر من النموذج التشافيزي للحكم.