ملوك الفرص الضائعة

TT

يسألني البعض بأدب: لماذا لا تكتب بالسياسة؟!

وبعضهم يسأل بدون أدنى أدب أو مجاملة: لماذا هذا الهزل والغثاء الذي يغلب على أكثر مواضيعك التي تطرحها في هذه الصحيفة، وكأن عالمنا العربي قد خلا من المشاكل؟!

ولا أكذب عليكم لو قلت لكم: إنني حقا منهم ومدان، ولكن (الحق معي) لو أنني تجنبت الحديث في السياسة والحق معي أيضا لو هزلت، لأنني بشكل أو بآخر، أو بطريقة غير مباشرة إنما أنا أعبر عن واقعنا العربي الذي كله (هزل في هزل).

وماذا يملك (المبتلى) غير أن يضحك ضحكا وكأنه البكاء.

وها أنتم تقرأون، أرجوكم تصفحوا الجرائد العربية من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، ليس من الآن فقط ولكن ارجعوا إلى (الأرشيف) منذ الأربعينات من القرن الماضي إلى وقتنا الحاضر الذي تنشر فيه هذه المقالة وأحصوا الكلام الذي قاله جهابذة الفكر والحماسة والتنظير من المفكرين العرب في علم السياسة، إنني أتحداكم أن كل (ركامهم) الكلامي الذي استفرغوه عبر ستة عقود كاملة لم يبن حجرا على حجر، ولم يقلع ظفرا واحدا من أظافر الأعداء، ولم يُعِد شبرا واحدا من الأراضي المغتصبة، بل بالعكس كان ذلك (الركام) وبالا على القضية، وضحكا على الذقون، واستعراضا للزعامات، وتخديرا لعقول الشعوب، وضياعا للموارد، وأدهى وأمر من ذلك كله ضياعا (للزمن) الذي لم نحسب حسابه، أو بمعنى أصح لا يعنينا أن نحسب حسابه، وهذه هي (الكارثة) المركبّة.

بل إن البعض ممن لعب الشيطان بعقولهم يقولون بما معناه: وماذا يهم، ولماذا نحن (مستعجلين)؟! طالما أن نساءنا يحملن ويلدن وبعضهن (بالتوائم)، وطالما أن مواليدنا يتكاثرون، (فلنرّحل) القضية للأجيال القادمة وهي كفيلة بحلها، هذا الكلام قيل من سنة 1947م، وتعاقبت الأجيال وتعاقب الترحيل، وكل سنة كانت (أسخم) من سابقتها، ولا نشاط للرجال غير الكلام وتلقيح النساء.

هل صحيح أن زعماء فلسطين ـ مع احترامي لهم ـ ابتداء من الحسيني وانتهاء بعباس ـ ولا ننسى مشعل لكي لا يزعل ـ مرورا بالشقيري وعرفات، هل هم صحيح (ملوك الفرص الضائعة)؟!

أخشى أن أقول: نعم فيتهمني البعض بالخيانة والعمالة، وأخشى أن أقول لا: فيفترسني ضميري.

وإلا كيف يفهم أي (متخلف عقلي) موقف عرفات (رحمه الله) عندما وضعوا له كرسيا مريحا على الطاولة في فندق (الميناهاوس) لكي يستعيدوا الضفة وغزه قبل أن يكون فيها مستعمرة واحدة، ورفض لأنه لا يريد أن يكون خائنا وفضل (الكفاح) الذي أوصله بعد سنوات من الاستجداء إلى (أوسلو)، بعد أن (طارت الطيور بأرزاقها).

هناك مثل شعبي في الجزيرة العربية يقول: (ولد العجوز الذي يجيه ربع حقه ويعافه).

وللأسف أن (أبو رقيبة) الذي خطب بالفلسطينيين في الضفة الغربية وقتها، وقال للفلسطينيين اقبلوا بالتقسيم (وخذوا ثم طالبوا)، وقتها هتفوا ضده وخونوه ورجموه بقشر البطيخ والحجارة.

والآن تريدونني أن أتكلم بالسياسة؟! لو أنني تكلمت لجعلت الكثيرين من الأحياء والأموات عرايا بدون ثياب تستر سوءاتهم.

فاتركوني الله يرضى عليكم بهزلي (المضني) هذا، فالناس مثلما يقال: من صعوبة البكاء يضحكون.

[email protected]