نعم.. في الاختلاف.. سعة

TT

كثر الحديث مؤخرا في السعودية عن مصطلح (الاختلاف الفقهي)، وعلقت عليه الكثير من التجاوزات، إما جهلا بمضمونه وأهدافه، وإما رغبة في إيجاد مفهوم جديد للاختلاف، (تحت ذريعة حرية الرأي) لا ضابط له، يسير بنا نحو الفوضى ونسف الثوابت المقننة للاختلاف، والمحددة لمساره الصحيح، وكأن تراثنا الديني والفكري يفتقر لهذا المنهج من حرية الفكر، وإيهام المجتمع بأن الاختلاف وقبول الرأي الآخر هو إحدى ركائز حرية التعبير التي كفلتها الثقافة الغربية فقط، دون سواها من ثقافات، وحتى لا يكون هناك التباس في سوء الفهم، فلنعرف معنى الخلاف والاختلاف فالخلاف هو ضد الشيء وعكسه، أما الاختلاف فيعني عدم الاتفاق، أي لم تتفق عليه الآراء (ويقال اختلف الأمران أي لم يتفقا) واختلاف الفقهاء هو ما وقع في محل يجوز فيه الاجتهاد، ولم يخالف الكتاب والسنة والإجماع، والمتقرر عند الفقهاء، أن الاختلاف ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع واختلاف تضاد فالأول رحمة وسعة، ومنه تنوعت الآراء والاختبارات وتفرعت مسائل الاجتهاد الفقهي، إلى كم لا حصر له، وذلك تأسيسا على قواعد الاستدلال والتخريج المعروفة لدى أهل هذا الفن.

أما الثاني: اختلاف التضاد فمذموم وهو سبب للتنافر والتباغض وقد يؤدي إلى الفتنة، إن لم يتم احتواؤه وتداركه من علماء الأمة وعقلائها، فالأحكام الثابتة نصا أو إجماعا لا مجال للاختلاف فيها مثل: أركان الإسلام وتحريم الربا والزنا والخمر والقتل ونكاح المحارم.

ومن المعلوم أنه لا خلاف في الشريعة بين المسلمين جميعا، كونها تقوم على الكتاب والسنة، إلا أن الخلاف فيما سوى ذلك سوف يظل قائما تبعا لاختلاف طبائع الناس، وأفكارهم، ورؤيتهم للأمور، ومستوى تعليمهم، وبيئتهم التي يعيشون فيها، من تربية وأعراف وغيرها، ومن أنواع الاختلاف: الاختلاف الفقهي بين المذاهب الفقهية أو داخل المذهب الواحد. فالاختلاف الفقهي الحاصل هو بسبب اختلاف في الفهم بين المجتهدين. إذن الخلاف هو في الفهم فقط، أما الشريعة فواحدة والحق واحد، والاختلاف في الفقه حكمة أرادها الله، فالخلاف سنة من سنن الله الكونية، وهو أي الاختلاف، رحمة وتوسعة على العباد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (وأما اختلاف الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مُسلمانِ في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير) وعندما صنف إسحاق الأنباري المتوفى سنة 252هـ (كتاب الاختلاف) قال له الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ سمه (كتاب السعة) لذلك قال العلماء، إن اتفاق الأئمة حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، والاختلاف يساعد على التعمق والبحث في مقاصد الشريعة وأسرارها، وتوسيع المدارك، فمن يلتزم بالإطار الشرعي والأخلاقي للاختلاف، فإن الإسلام يكفل له الحرية في ذلك، كون مقصده إثراء الفكر فيما لا نص فيه للوصول للحقيقة، ومن هذه الاجتهادات تكونت الثروة الفقهية التي يزخر بها ديننا وتراثنا الإسلامي، والذي هو ثمرة للاختلاف الإيجابي التراكمي على مر العصور الإسلامية، إلا أن الاختلاف الذي نشهده حاليا حول بعض القضايا الفقهية، ودخول غير المختصين في هذا الفن يطرح سؤالا موضوعيا، وهو هل دخول غير المختص في الاختلاف الفقهي مقبول؟ أم أن دخول غير المختصين قد حول الاختلاف إلى جدل ولجة ساهم في عزوف الكثير من الفقهاء عن الاجتهاد الذي تتطلبه المرحلة، لذلك ليس من المتوقع الخروج بثمرة تراكمية إيجابية من هذا الجدل كونه قائما على عسف النصوص والأحاديث للاستدلال بها فيما يخدم المجادل نفسه فقط، وليس الوصول للحق، وادعاء معرفة الحق من غير المختص، هو تجسيد للتعصب الفكري، وضيق الأفق، والبعد عن الحكمة. والاستخفاف بآراء الآخرين بغير علم إنما هو ترسيخ للانحراف عن المفهوم الصحيح للاختلاف وضوابطه، بل حتى مخالف لمبدأ حرية الرأي التي ينادي بها البعض من منظور غربي، مما قد يفضي إلى أن يُعطى هذا الاختلاف صبغة الاختلاف بين تيارين، هما أقرب إلى السياسي منه إلى الفقهي، وهذا خروج عن السياق العام للاختلاف الفقهي المعهود، مما ينعكس سلبا على مسيرة الاجتهاد الفقهي المطلوب في هذه المرحلة، التي نحن أحوج ما نكون إليها.

وعليه فنحن مطالبون بأن نعيد الروح إلى الاختلاف الفقهي ووضعه في مساره الصحيح ليكون محصورا في دائرة الفقهاء فقط وبعيدا عن التجاذبات الفكرية والسياسية والإثارة الصحفية، ليتمكن الفقيه من الإبداع في الاجتهاد بعيدا عن تلك التجاذبات المؤثرة، يقول الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ (ثم اعلموا وفقكم الله إن كانت المسألة إجماعا فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد) (الدرر السنية 1/43). مع التأكيد على تلك القاعدة الفقهية، التي تسير عليها الدولة السعودية منذ نشأتها قبل أكثر من مائتين وستين عاما علي يد الإمام الأمير محمد بن سعود – رحمه الله - وإلى وقتنا الحاضر، وهي أن حكم الحاكم يرفع الخلاف.

amalik _ s@ hotmail.com