أتراك ـ أكراد: قوة من لا قوة لهم!

TT

قرار الالتحاق بقافلة مؤسسة «أبانت» الفكرية للحوار المتوجهة إلى آربيل ضمن ملتقى نقاشي أكاديمي، لم يكن بهذه السهولة فالكثير من المهتمين بالشأن السياسي التركي يراقب الحدث عن بعد وبأدق تفاصيله، كما أن لآربيل مركزا مميزا في ترتيب معادلات وأولويات سياسة حكومة العدالة والتنمية حيال العراق وشماله.

خطوط حمراء وعدم اعتراف ومقاطعة مستمرة حتى موعد آخر، هي أهم ما كان يتردد في أذهان أكثر من 100 أكاديمي وكاتب وإعلامي جاءوا من مختلف المناطق التركية عندما حطت الطائرة بهم في مطار آربيل الدولي.

سياسيونا في أنقرة وبغداد وآربيل ربما يحسدوننا الآن، لأننا سبقناهم في الإقدام على ما كان عليهم أن يبدأوه هم ومنذ أمد بعيد، فنحن جلسنا نتحاور طيلة يومين كاملين في الحاضر والمستقبل، نتبادل العتاب الذي تعقبه أجواء مشدودة تهدد بالانفجار في أية لحظة، لكن أحدا من الجانبين لا يريد التفريط بمثل هذه الفرصة التي وصفها الجميع بأكثر من تاريخية. وهكذا نعود لنلتقي مجددا أمام خط الوسط، ندون بعض الملاحظات والتكتيكات، وتنتهي المباراة بالتعادل الحبي كما قال لنا البيان الختامي، الذي دعا الحكومات والمؤسسات لتعديل وتغيير سياساتها في التعامل مع هذه القضايا قبل فوات الأوان.

القنصل التركي في الموصل جاء خصيصا لإلقاء كلمة في اللقاء الذي لا يخفى على أحد أن الغرب تابعه قبل الشرق. اقتربت من أذن أحد المثقفين الأكراد الذين كنت خلال الحديث معه أشعر أنني أعرفه منذ سنوات، وقلت ممازحا، هل رأيت.. رئيس وزراء الإقليم قاطع هذا النشاط وأهدر مثل هذه الفرصة ولم يشارك حتى في حفل الافتتاح الرسمي، فرد ضاحكا هو الآخر، لا تقلق هو يتابع كل شاردة وواردة على مدار الساعة، بذل جهدا لإنجاح مثل هذا اللقاء، ولن يفرط به بمثل هذه السهولة، تغيبه هو رغبته، تجنب إعطاء هذا النشاط بعدا سياسيا يموت قبل أن يولد.

المفكر الكردي، سيرو قادر، قال أمام الحماس والاندفاع المقروء على وجوهنا، حتى الآن سياسة بلادكم الرسمية هي عدم الاعتراف بنا، لكن جلسات الحوار هذه ستحمل رسائل إلى الكثيرين، فهي فرصة كبيرة وحالة خاصة ينبغي عدم التفريط بها والتعامل معها بعمق وجدية.

بين أفضل ما قيل لنا هناك أيضا، هو كلام رئيس مركز أبحاث «موكريان»، أحد الأطراف الداعية لهذا اللقاء الذي كان يتجول ليلا نهار بثياب أبي العريس: «إننا لم نحضر إلى هنا لمحاسبة بعضنا البعض وإطلاق حملات جديدة من التصعيد والتحدي والاستفزاز والإثارة، نحن مثقفون وكتاب، وما سنقوله وندعو إليه هو التهدئة والحوار، والإسراع في الانفتاح، ومطالبة الحكومات والقيادات السياسية في الجانبين بذلك علنا. نستغل فرصة من هذا النوع بعد إهدار عشرات المناسبات من دون أي تردد».

هي المرة الأولى في تاريخ العلاقات التركية – الكردية التي يلتقي فيها هذا الحشد التركي - العراقي الكردي الهائل من الكتاب والمثقفين والإعلاميين، مستبعدين قدر الإمكان رجال السياسة عن الحدث.

خلال العودة فوجئنا بأننا ندخل مطار اسطنبول من نقطة لم نتعود عليها في رحلاتنا السابقة، أقلقنا ما يحدث للوهلة الأولى، هل سندفع ثمن ما جنيناه على أنفسنا، اكتشفنا لاحقا أنها مجرد تدابير أمنية خاصة تطال الطائرات القادمة من بعض الأماكن من شمال العراق وأفغانستان وباكستان، ولا حاجة للدخول في التفاصيل هنا.

حرارة لقاءات الحوار والنقاشات نهارا، وحماوة ساحات الغناء والرقص الفولكلوري مساء، الذي كان مصحوبا ببرد قارس بعد منتصف الليل، حملتنا لأيام إلى فراش المرض، وعكة لا قيمة ولا أهمية لها أمام مرضنا المزمن؛ جاهزيتنا الدائمة للاقتتال والاختصام. المهم الآن هو أن نخرج على شعوبنا وحكوماتنا كمثقفين وأكاديميين وإعلاميين بالخيارات والبدائل التي تسهل لها وتشجعها على اتخاذ قراراتها السياسية في التعامل مع معضلة مزمنة باتت تستحق أن تجد حلا، فحالة الـ«بين بين» لم تخدم سوى الآخرين ومصالحهم.

اللقاء وتفاعلاته وصداه يتردد في الإعلام التركي منذ أيام، لا نعرف بعد إلى أين سيقود، لكننا نعرف أننا «طبقة» المثقفين الأتراك هذه سنتعرض إلى اختبار قوتنا على الأرض بأسلوب وطريقة مختلفة هذه المرة.

خلال الزيارة نقل أحد أكاديميينا إلى طوارئ أهم وأكبر مستشفيات المدينة بشكل عاجل، وعاد وهو يوجز لنا ما جرى بعبارة واحدة، الطبيب التركي يحاوره لتحديد مكان الوجع، وآخر كردي يتولى عملية المعاينة، وثالث عربي هو الذي كتب العلاج. وودعه الجميع أمام الباب.

عشاء ساهر للمشاركين الأتراك والأكراد وأغاني من البلدين، يدخل نزار قباني فجأة على الخط ليهتف بأعلى صوته «زيديني عشقا زيديني يا أحلى نوبات جنوني» ليكون هو نجم السهرة بعربيته الفصيحة.

لم أقرا بعد البيانات السياسية لحزب العمال المتربص في جبال قنديل المحيطة بمكان اللقاء ورأيه في ما يجري، لكنني أعرف أن رأس الكنيسة السريانية في ماردين، المدينة التركية الجنوبية الشرقية، ومركز الموزاييك اللغوي والديني، لم يشأ هو الآخر أن يفوت هذه اللحظة التاريخية ليأخذ مكانه فيها مراقبا متابعا بصمت ودقة.

هذه هي منطقتنا مع رسم إيضاحي إضافي يضم إلى مادة نظرية أتعبت الكثيرين من القراءة والتحليل، علها تسهل للبعض فهم ما يجري ويدور من حوله. يبدو أن لا خيار آخر أمامنا وأمام قياداتنا وسياسيينا سوى الإصغاء إلى صوت الشارع بمختلف ميوله وتوجهاته وتنوعه اللغوي العرقي الديني المصر على التعايش متداخلا مندمجا، وليكن بصناعة محلية، من فضلكم، لا تقل قيمة عن ربطة الخبز العربي وكيلو الزعتر وأكياس الفول اليابس التي حملتها من آربيل.

* كاتب وأكاديمي تركي