المالكي.. واتباع الحدس!

TT

إذا كانت هناك من صفة أظهرها رئيس الوزراء العراقي لا يجب أن يختلف عليها اثنان فهي قدرته على عبور ألغام الخارطة السياسية العراقية بنجاح، ومنذ نهاية عام 2007 تمكن الرجل من إدارة جملة من التحديات السياسية الصعبة والخروج منها أقوى من السابق. واليوم يبدو المالكي اسما لرقم أساسي في المعادلة السياسية، ولمنطق سياسي كان غائبا بقدر ما صار حضوره حتمية فرضتها طبيعة المتغيرات خلال الأعوام الأخيرة. لقد نجح المالكي في أن يتحول من قيادي في حزب الدعوة، إلى أهم زعيم سياسي يفوق بحجم تأثيره حزب الدعوة نفسه. ليس تجنيا القول إنه بدون الصورة التي رسمها المالكي لنفسه والبرنامج الذي أخذ يروج له ونجاحه خلافا لكثيرين من رجالات المعارضة المنفيين السابقين في أن يكسر الحاجز النفسي بينه وبين الشارع العراقي المتشكك دوما بسياسيي الجوازات المتعددة، بدون ذلك كان حزب الدعوة سيغدو واحدا من أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات.

سيجادل البعض بأن الرجل استفاد من كونه رئيسا للوزراء ووظف النفوذ الكبير لهذا المنصب لكسب رصيد سياسي، وهو أمر لا يمكن نفيه بالطبع، فالمالكي قام بما سيقوم به أي آخر غيره، ساعدته الظروف ثم بعض القرارات الجريئة ثم قدرة جيدة على إدارة لعبة التحالفات في داخل طبقة سياسية مأزومة يغلب عليها المنطق التآمري ويكاد يغيب داخلها سقف واضح لتعريف المصلحة الوطنية، ثم إنه أظهر في كل ذلك حدسا جيدا، فبدا بعد كل حجارة يرميها الآخرون نحوه أكثر قوة ومنعة. حتى اليوم كان حدس المالكي مصيبا في أشياء كثيرة، وربما غدا نصره الأساسي أنه صار رمزا لإمكانية التغيير والتصحيح والإصلاح معيدا شيئا من الأمل إلى نفوس الناس المتعبة والوجلة.

لكن الرمز لا يغدو رمزا عندما لا يستطيع أن يعبر عن ما أراد الترميز إليه، والمالكي يدرك أن انتصاره الانتخابي هو تفويض محدود لا مكافأة مفتوحة، وأنه قد يعود عليه سلبيا إن لم يتم توظيف أسباب النصر لدعم برنامجه وعناصره، فرغم كل الأهمية التي حظيت بها الانتخابات الأخيرة والتي كان بروز كتلة سياسية جديدة وقوية باسم «ائتلاف دولة القانون» أحد أبرز نتائجها، تظل انتخابات مجلس النواب القادمة في نهاية العام الحدث الأكثر مصيرية وخطورة لا بالنسبة للمالكي فقط بل بالنسبة للبلد بأكمله. آخر ما يحتاجه المالكي هو انتشاء مستعجل أو ثقة منفلتة، وآخر ما يمكن أن يتصوره الذين أصبحوا أعضاء في مجالس المحافظات من كتلته أن لهم دورا رئيسيا في ذلك الفوز، لقد فازوا لأنهم «جماعة المالكي» وليس لأي سبب آخر، ليواجهوا هذه الحقيقة مهما بدت محرجة لبعضهم، فأكبر خطر في اللعبة السياسية ليس في أن يخدعك الآخرون بل في أن تغرق في خداع الذات.

إن فوز المالكي من عدمه في الانتخابات المقبلة ليس مهما إلا بقدر ارتباطه باحتياجات البلد ليتعافى، وقد نختلف حول تقويمنا لشخصية الرجل وتاريخه، ولكن إلى حد كبير يبدو أنه نجح في أن يطرح نفسه كخيار عدم العودة إلى الوراء. غالبية العراقيين يدركون أن لا بديل سوى المضي للأمام، وذلك يعني فيما يعنيه أن لا رغبة بمزيد من التجريب وسط أنقاض البلد، ولا رغبة بمزيد من الألاعيب المترفة، أو الجدل البيزنطي أو التهديد بمغادرة القطار. المالكي يقدم ضمن برنامجه الرغبة بالحاجة إلى العمل، وهذه الرغبة تبدو مفتاحا للكثير من أسرار مجتمع ترهقه بطالة الشباب الباحثين عن العمل كما أرهقته مجادلات السنوات الماضية حول قضايا آيديولوجية لم تملأ بطنا جائعة أو تكسو جسدا عريانا. قد تنطوي هواجس الخصوم والحلفاء تجاه المالكي على الكثير مما هو صحيح أو مقنع، ولكن هل يمكن لأحد عاش مخاضات العراق في السنوات الأخيرة أن لا يدرك أن كل صحيح نسبي، وأن لا وجود للبديل الأمثل وأن هناك انتقاءً طبيعيا يحدث داخل الحلبة السياسية لا ينتصر فيه الحكماء أو الفلاسفة أو المنظرون بل الأقوياء الذين يتكيفون مع المتغيرات ويطوعونها.

ثم إن على المالكي أن يدرك خطورة أن لا يواصل السير إلى الأمام، وخطورة الاختبار الذي وضعه فيه الناخبون عندما كلفوه بالمضي قدما. هناك خطوات بحاجة لأن تؤخذ، والكثير منا يراهن على حدس المالكي الذي يعرف أن ما سيفعله ممثلو تحالفه في المحافظات تجاه شارع غير مبلط في البصرة أو ماء غير صحي في العمارة أو مستشفى فقير في السماوة أو مياه آسنة في أحد أحياء بغداد، سيكون له تأثير على موقف الناس منه في الانتخابات القادمة. ما بالك إن كان ما سيفعلونه له أثر على فرص العمل والازدهار الاقتصادي ومجمل الواقع الخدمي. ربما لن يكون «جماعة المالكي» أو غيرهم بقادرين على إحداث تغيير جذري في زمن قصير، لكنهم قادرون على أن يظهروا أنهم أكثر حرصا على التغيير وأقل تكالبا على التمظهر وأقل لهفاً وراء المصلحة ممن سبقوهم. سيكون اختيار المحافظين من خارج دائرة المتحزبين رسالة جيدة تعبر عن منطق «دولة القانون» بقدر ما ستخفف المسؤولية عن المالكي نفسه. ثم سيكون على المالكي الانتقال بمشروعه من الفضاء الحزبي الضيق إلى فضاء أوسع، تصبح معه ممكنات المشروع «الوطني» أكثر تمثيلا لطبيعة الوطن.

حتى اليوم برهن المالكي على حدس جيد في مسيرته داخل حقل الألغام الكبير، وربما يبدو السبيل إلى الأمام معتمدا على الاحتفاظ بهذا الحدس حتى لو خالف نصائح الأصدقاء.. أو بعض من يسمون أنفسهم كذلك.