إنسان برغم الهوان

TT

سألني الصيدلي عن عمري، ففي بريطانيا يعطون الدواء للكبار مجانا. ذكرت له عمري. فواصلني زبون آخر كان واقفا في الصيدلية وقال لي أنت أصغر مني بخمس سنين ولا تتذكر الحرب العالمية. ثم سألني أين أسكن. قلت له في ومبلدن. قال: آه! لي ذكرى عجيبة هناك. لم تكن ذكريات حب وغرام. كانت ذكريات حرب وقصف. كنت أنا أيضا أسكن في ومبلدن في طفولتي، عندما سقطت قنبلة في حديقة بيتنا أثناء غارة جوية قامت بها طائرات المسرشمدت الألمانية على لندن خلال الحرب العالمية الثانية.

ـ الحمد لله أنك سلمت كما أرى.

ـ نعم سلمت لأن القنبلة لم تنفجر.

ثم مضى الرجل يحدثني، فقال إن والده أبعدهم من الحديقة واتصل فورا بقوات الجيش ليبعثوا من يتولى أمر هذه القنبلة. فبعثوا ثلاثة جنود متخصصين بتفجير القنابل والتخلص منها. أمروا بإخلاء البيت وكل البيوت المجاورة من السكان، ثم باشروا عملهم. ولكنهم لم يستطيعوا تفجير القنبلة. تعجبوا من أمرها. بادروا إلى فحصها فتبينوا أنه لم يكن فيها أي نوع من البارود أو المواد المتفجرة.

ازدادوا عجبا على عجب. كيف أن الألمان المعروفين بحرصهم وبدقة عملهم يبعثون بقنبلة لقتل الإنجليز بدون مادة متفجرة؟ فتحوا القنبلة أخيرا فوجدوها معبئة بنشارة الخشب بدلا من البارود! ما هذا؟

فرغوا نشارة الخشب من القنبلة، فوجدوا بها بطاقة صغيرة تحمل كلمات خطت بقلم رصاص ويد مرتجفة تنم عن كاتب أجنبي، لا يجيد اللغة الإنجليزية، وهي تقول: «من مواطن تشيكوسلوفاكي إلى أصدقائنا الكرام الإنجليز!».

كان عاملا جنده النازيون قسرا من تشيكوسلوفاكيا المحتلة للعمل في معامل صنع الأسلحة والعتاد للحرب.

سمعت حكاية الرجل فقلت: «يا الله! حقا إذا قالوا روح الإنسان لا تموت. لقد خاطر هذا العامل الأسير بحياته ليغش أسياده النازيين ويعبئ القنابل بنشارة الخشب، أو التراب أو أي شيء غير البارود ليصون حياة بشر أبرياء آخرين. لولا فعلته هذه لما رأيت ذلك الرجل حيا أمامي في هذه الصيدلية».

كان ما فعله ذلك العامل التشيكوسلوفاكي جزءا من أعمال كثيرة مشابهة قام بها سكان أوروبا المحتلة ضد الاحتلال النازي في إطار ما عرف بالمقاومة المدنية، الجهاد المدني اللاعنفي، بعيدا عن القتل والضرب وسفك الدماء.

www.kishtainiat.blogspot.com