في ذكرى العندليب

TT

لا أكاد أصدق أن أكثر من ثلاثين عاما مضت على رحيل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ. أتذكر اليوم، وأتذكر انفعالاتي ساعة سماع النبأ وأنا جالسة خلف مكتب في صالة تحرير الصحيفة الأولى التي شهدت دخولي إلى بلاط صاحبة الجلالة. أتذكر أنني أمسكت بالقلم ـ فقد كانت تلك الأيام سابقة للكمبيوتر ومفاتيحه السحرية - وسردت تفاصيل لقائي به في مطار هيثرو حين هبطت بي الطائرة يوما إلى عالم مجهول وعمر طويل من الاغتراب والتعلم والنضوج.

مؤخرا اقترحت على زملاء عمل أن نحيي ذكرى العندليب بحديث أو تقرير. وأدهشني أن تدخلت زميلة فقالت «إن الجيل الجديد لم يعد يعرفه أو يسمع أغانيه». أصابتني سخونة من احتمال أن يكون كلامها واقعا؛ فعبرت عن استنكاري بلهجة غاضبة، ثم اعتذرت، ولُذْت بصمت محمل بالتساؤلات.

في اليوم التالي سألتُ صديقة «لماذا تأثر أبناء جيلنا بعبد الحليم حافظ؟»، فقالت «لأنه اشتهر ونحن ننتقل من الطفولة إلى مرحلة الأحلام الرومانسية، ولأن أغانيه الوطنية أصبحت لسان حال الجيل». ونحن لا يمكن أن ننسى الزغرودة التي تبدأ بها كوبليهات: (قلنا ح نبني.. وآدي إحنا بنينا السد العالي.. يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالي.. من أموالنا بإيد عمالنا..).

في المساء أخرجتُ من مخبئه دفترا صغيرا رافقني منذ كنت مراهقة تسجل خواطرها وأحلامها وأحزانها بعيدا عن كل عين فضولية. وحملت الدفتر معي أينما ذهبت. نظرت إلى الغلاف الأزرق الداكن، ثم تصفحت الدفتر، إلى أن وصلت إلى الصفحات الأخيرة التي دونت فيها كلمات أغاني العندليب. وحملتني الذكرى إلى ذلك الزمن الجميل، وأدركت أن الفنان الراحل ما وصل إلى ما وصل إليه في وجدان الناس إلا بالجد والعمل والمثابرة على اختيار الكلمة الراقية واللحن المميز والأداء الصادق. سبقت نجاحاته زمن الفيديو كليب وضرورة أن تتلوى الأفاعي الأنثوية على الشاشة كخلفية لأداء مطرب يصدح بدعم من آلات إلكترونية تصم الآذان، وإيقاعات راقصة شبه بدائية.

عبد الحليم حافظ يعيش في القلوب والأذهان كرمز لمرحلة ولدت فيها آمال وأحلام، بعضها تحقق وبعضها تلاشى إلى العدم. قد أبالغ إذا قلت إن فنه كان كذراع ممدودة طال الحس العربي في المشرق والمغرب، وكأن إحساسه الصادق القوي مثل لكل عربي وما يتمنى أن تكون عليه مصر الأم التي تفتح حضنها لمن يريد ودا وأمانا واستمرارا.

بعد مائة عام من اليوم سوف يذكر الناس عبد الحليم حافظ، وفيروز، وأم كلثوم، لأن كلا منهم عبر عن انتمائه بفن تجاوز الحدود الجغرافية إلى ما هو أعمق وأبقى. أحيانا تلهينا أمور الدنيا، وتتابع الأحداث عن القيم الثابتة في العقل والوجدان، ولكنها قيم لا يمكن أن يواريها تراب البراجماتية التي تقتات على الوجبات السريعة في العلم والمعرفة والفن. قد ينشأ جيل يعرف مايكل جاكسون، ويعرف بريتاني سبيرز، ومادونا، ولكنه لا يعرف عبد الحليم حافظ. ولكن هذا الجيل نفسه سوف يفيق يوما؛ فيغني: «وطني حبيبي الوطن الأكبر.. يوم ورا يوم أمجاده بتكبر.. وانتصاراته مالية حياته.. وطني وطني».

وعلى صعيد شديد الخصوصية، تبقى كلمات «صافيني مرة وجافيني مرة» محفوظة بين صفحات كتيب صغير بهت لونه، إذا قرأتها تذكرت اللحن والصوت، وعاد بي الزمن؛ فرَدَّني صبية نقية تتأهب لاستقبال حياة مفعمة بالحب والأمل.