أكثر من مجرد محكمة

TT

كتب أحدهم ذات مرة منتقدا: لماذا الإصرار على ملاحقة قتلة رفيق الحريري، ومنطقتنا مليئة بالضحايا والقتلة؟ وانتقد كثيرون الاهتمام بقتلة الحريري في حين أن إسرائيل قتلت آلاف الناس الأبرياء.

ولو كان تفكيرنا يعطل بمثل هذه اللغة لتوجب علينا إغلاق دوائر الشرطة في كل العالم العربي، وغض النظر عن المجرمين في كل مكان تقع فيه جريمة بدعوى أن الإجرام واقع شائع، أو لأن الأولوية يجب أن تعطى فقط لمواجهة القتلة الإسرائيليين، وبالتالي ترك المجرمين يتسيدون.

ورغم محاولات التشكيك والتخويف أخيرا افتتحت محاكمة قتلة الحريري أمس في لاهاي. افتتحت مثل الحلم لأن الكثيرين بلغ بهم اليأس مؤمنين باستحالة عقد المحكمة. وخاف كثيرون من المشككين من أن صفقة سياسية كافية لمنعها.

لهذا كان مهما أن تفتتح المحكمة علانية، ووسط احتفاء كبير بها كالذي شهدناه أمس، حتى يصل صوتها إلى كل مكان لا لبنان، بل كل العالم، ليشعر القتلة بالخوف. من حق الحريري الذي قُتل غدرا، وبقية الزعامات الوطنية الأخرى التي تمت تصفيتها عمدا، وبقية المائة والثلاثين ضحية في لبنان التي ماتت في عمليات الاغتيال المنظمة، من حقّ هؤلاء أن تُعقد محكمة وأن يلاحق القتلة. إنه حق أي إنسان عادي، لا فقط رئيس وزراء أو وزير أو صحافي كبير، أن يُقتص من قاتله في أي مكان في العالم. ومن يشكّك في حق هؤلاء في تحقيق العدالة والقصاص من المجرمين فانه يشكّك في كل المعاني الكبيرة للعدالة.

بالفعل كان يوما تاريخيا، ليس تشفيا أو انتقاما أو حتى ملاحقة للقتلة في لبنان فقط، بل لأنه عزز مبدأ ردع الإجرام السياسي الذي ألفت ممارسته بعض الأنظمة والمنظمات اعتقادا منها أنها لن تلاحق. فقتل الحريري كان رسالة يراد بها كسر إرادة اللبنانيين، ومحاكمة قتلة الحريري هي الأخرى رسالة معاكسة لكل القتلة في المنطقة، بأن عمليات الإجرام السياسي لن تمر بلا ثمن.

فالرصاصة في منطقتنا وسيلة رخيصة لغاية كبيرة، وإن كانت حقيرة. هناك من يعتقد أن الأسهل قتل الخصوم السياسيين، ثمن زهيد، رصاصة واحدة أو طن من المتفجرات.

لهذا كانت المحكمة مناسبة ورسالة تنطلق منها دعوات المحاكمة لكل القتلة والمجرمين في عالم السياسة في عالمنا العربي الذي مات فيه زعماء غيلة، وانقلب فيه البعض على أنظمة شرعية، وعاشت الشعوب في خوف مستمر.

 ولا ندعي أن افتتاح المحكمة أمس سيمحو الخوف من القتلة من داخلنا، فالخوف لا يزال مسيطرا، وهناك الكثير من جمهوريات الخوف، وحتى ينتقل الخوف من الضحية إلى القاتل لا بد أن تكمل المحكمة مسيرتها، ويسمع العالم أحكام القضاء. إنها خطوة واحدة بالغة الأهيمة في تاريخنا العربي، إنها أول محاكمة لجرائم عديدة.

[email protected]