إعادة إعمار غزة.. وعملية السلام

TT

أثناء القتال في غزة وحولها بين 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، و18 يناير (كانون الثاني) 2009، تحمل السكان المدنيون في غزة وجنوب إسرائيل العبء الأكبر من العنف والدمار والمعاناة على نطاق واسع. ونتيجة لذلك، تعرض سكان غزة، الذين سبق أن تحملوا الكثير من الصعاب لسنوات عديدة، لبؤس أشد وطأة، وباتوا يواجهون مستقبلا غامضا بمزيج من القلق واليأس. فلقد طرق الموت والدمار والتشرد أبوابهم، علاوة على ما طالهم من الآثار الضارة للاحتلال والحصار والحرب الأهلية، والانهيار الاقتصادي. وشاهدت مدى ما يتعرض له الناس من إهانات عندما زرت غزة بعد يومين فقط من إعلان وقف إطلاق النار، وقد تأثرت بشدة بما رأيته وسمعته.

ولم يكن سكان غزة وجنوب إسرائيل الضحايا الوحيدين، بل تأثرت أيضا العملية السياسية التي كانت جارية منذ مؤتمر أنابوليس في نوفمبر (تشرين الثاني( 2007. وفي الوقت الذي نواجه فيه التحديات الماثلة أمامنا عند تقديم المساعدة الإنسانية والمشاركة في الإنعاش وإعادة الإعمار المبكرين، فإننا نواجه أيضا ضرورة إنعاش العمليات السياسية وإعادة بنائها بين الفلسطينيين أنفسهم، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين إسرائيل والعالم العربي.

انتهت ثلاثة أسابيع من القتال الحامي الوطيس بإعلان الطرفين لوقف إطلاق النار من جانب واحد في 18 يناير (كانون الثاني). والوضع ما زال هشا منذ ذلك الحين، وثمة مزيد من العنف والإغلاقات المستمرة. وهذا ما يؤكد ضرورة وجود وقف دائم ووطيد لإطلاق النار، واحترامه احتراما تاما، وفق ما طالب به مجلس الأمن. وقادت مصر، قيادة تستحق عليها الثناء، جهود التوصل إلى وقف إطلاق النار هذا، كما عملت على معالجة العديد من القضايا الأخرى ذات الصلة، مثل إعادة فتح المعابر بشكل كامل مع غزة، والإفراج عن سجناء فلسطينيين مقابل إطلاق سراح العريف شاليط، وإعادة توحيد الفلسطينيين. واتخذت مصر أيضا مبادرة لاستضافة اجتماع كبير هذا الأسبوع في شرم الشيخ لتلبية الاحتياجات الاقتصادية الفلسطينية، وبخاصة احتياجات الإنعاش وإعادة الإعمار في غزة.

ولا يزال فتح المعابر، على النحو المتوخى في الاتفاقات الدولية، مسألة جوهرية لكي يصمد وقف إطلاق النار، ولكي تصل المساعدة الإنسانية وإعادة الإعمار إلى الناس الذين هم في أمس الحاجة إليها. وإذا أردنا استعادة نظام للعبور يعمل بشكل سليم، لا بد من معالجة الشواغل الأمنية المشروعة لإسرائيل، وينبغي للسلطة الفلسطينية أن تكون في وضع يؤهلها للاضطلاع بمسؤولياتها بموجب هذه الاتفاقات. وهذا، بدوره، يحتاج من الشعب الفلسطيني أن يستعيد وحدته في ظل حكومة واحدة ملتزمة بمبادئ منظمة التحرير الفلسطينية. ولقد ذكرت بأن الأمم المتحدة سوف تعمل مع حكومة فلسطينية موحدة تضع قطاع غزة والضفة الغربية تحت سلطة الرئيس عباس. وأحث جميع الأطراف الفلسطينية، وجميع الجهات الفاعلة على الصعيدين الإقليمي والدولي، على دعم عملية المصالحة الفلسطينية.

وإن أكدت الأزمة في غزة على شيء، فإنما أكدت عمق الإخفاقات السياسية في الماضي، والحاجة الماسة إلى تحقيق سلام عادل ودائم وشامل لجميع الشعوب في الشرق الأوسط. وكما أننا بحاجة إلى حكومة فلسطينية موحدة ملتزمة بعملية السلام، فإننا بحاجة أيضا إلى أن تفي الحكومة الإسرائيلية بالتزاماتها. وكما أننا بحاجة لأن يعالج الفلسطينيون القضايا الأمنية - كما تفعل السلطة الفلسطينية بشكل تستحق عليه الثناء في الضفة الغربية - فإننا بحاجة إلى أن يجمد الإسرائيليون الاستيطان تجميدا حقيقيا. فالتوسع الاستيطاني غير قانوني وغير مقبول، ويسهم كثيرا في تقويض الثقة في العملية السياسية في جميع أنحاء العالم العربي. وأنا أحث جميع الشركاء الدوليين على جعل هذه القضية محور الجهود الدولية المتجددة لتحقيق السلام.

وفي غضون ذلك، يجب على الأمم المتحدة أن تواصل تقديم المساعدة الإنسانية في غزة، وحيثما تكون هناك حاجة إليها. ولقد أطلقنا نداء للمساعدة بُعيد انتهاء القتال، وآمل أن تواصل الجهات المانحة المساهمة بسخاء في ذلك النداء، مع الاستمرار في دعم السلطة الفلسطينية، التي تدفع من ميزانيتها مرتبات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية في غزة لتقديم بعض الخدمات الأساسية. وقد ناشدتُ جميع الأطراف للسماح بتقديم المساعدة الإنسانية وتوزيعها في جميع أنحاء غزة من دون عراقيل، وضمان سلامة وأمن الموظفين العاملين في المجال الإنساني، والاحترام الكامل للقانون الإنساني الدولي. ويجب ألا يكون هناك أي عوائق أو تدخل عند تقديم المساعدات الإنسانية.

ويجب علينا أيضا أن نضمن الانتقال في الوقت المناسب من المساعدة الإنسانية الطارئة إلى مرحلة الإنعاش وإعادة الإعمار المبكرين، فبدون هذا الانتقال سيظل الآلاف من سكان غزة عالقين في وضع البقاء على قيد الحياة والاعتماد على الغير، وستضيق بشدة آفاق النمو والاستقرار على المدى الطويل. ويجب إعادة قدر معين من الحياة الطبيعية إلى غزة. كما ينبغي أن نعمل يدًا بيد مع السلطة الفلسطينية التي تخطط لأولويات الإنعاش وإعادة الإعمار المبكرين، وذلك من منطلق وحدة الهدف بين الجهات الفاعلة الإقليمية والمجتمع الدولي. وفي الوقت الذي نفعل فيه ذلك، لا يسعنا أن نهمل الضفة الغربية، حيث لا بد لنا من الاستمرار في مساعدة السلطة الفلسطينية في جهود الإصلاح التي تبذلها حاليا. ولكي يرى الفلسطينيون العاديون تحسنا ملموسا في حياتهم اليومية، ينبغي على إسرائيل أن تتخذ تدابير فورية لتحسين التنقل والوصول إلى الموارد الحيوية، مثل الأراضي والأسواق.

وينبغي ألا يكون هدفنا هو مجرد العودة إلى الحالة التي كانت سائدة قبل 27 ديسمبر (كانون الأول) في غزة، أو في عملية السلام. فالآن، أكثر من أي وقت مضى، هو الوقت المناسب لتحقيق سلام كامل وشامل بين إسرائيل وجيرانها العرب. وفي الوقت الذي نسعى فيه جاهدين لتقديم المساعدة المطلوبة على نحو عاجل، وإعادة بناء غزة، يجب علينا أيضا أن نعمل، دون كلل، من أجل تحقيق هدف كان يجمع بيننا، ولكن بلوغه ظل يفلت منا منذ فترة طويلة: أي إنهاء الاحتلال الذي بدأ في عام 1967، وإقامة دولة فلسطين في غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن، وتحقيق سلام شامل وعادل ودائم بين إسرائيل وجميع جيرانها العرب. وأتعهد بأن أبذل كل ما في وسعي، كأمين عام للأمم المتحدة، لتحقيق ذلك السلام الشامل والعادل والدائم في هذه المنطقة الحيوية. ويجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته لتيسير إحراز تقدم، وأن يصر عليه عند الضرورة. وفي أعقاب النزاع المأساوي في غزة، بات هذا الأمر أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

* الأمين العام للأمم المتحدة خاص بـ «الشرق الأوسط»