صواريخ إسرائيل!

TT

منذ وقف إطلاق النار «الرسمي» على غزة عادت إسرائيل إلى ممارسة حرب من نوع آخر لم تتوقف منذ عام 1948 ضمن مخطط غدا واضحا منذ سنين لتهجير السكان الأصليين واستقدام مستوطنين مكانهم. ففي كل يوم تعتقل قوات الاحتلال الإسرائيلي عشرات الفلسطينيين من الضفة وتقصف غزة بالصواريخ فتهدم المنازل وتقتل الأبرياء وتُسلم المقدسيين بالقدس إخطارات بهدم منازلهم في حي السلوان، المنازل القريبة من المسجد الأقصى، ضمن خطة لتهويد مدينة القدس وتبث قناتها العاشرة صورا كاريكاتورية للسيد المسيح وسيدتنا مريم عليهما السلام.

كل هذا والعالم «يدعو إسرائيل إلى الامتناع عن هدم 80 منزلا في القدس»، وتحاول اللغة الإنجليزية بكلّ مرونتها إخفاء الوجه البشع للجريمة بحيث يقول الخبر إن «البنى سوف تدمر» مجرّدا المنازل من اسمها الحقيقي ألا وهو البيت والملجأ والذكريات والماضي والحاضر والملاذ، كما يتواطأ البعض مع العمل المشين فيعلنون ما تصرّح به «إسرائيل» وهو أن هذه المنازل «غير شرعية» ولذلك ستقوم إسرائيل بهدمها، رغم أن هذه المنازل قد بُنيت قبل الاحتلال الإسرائيلي للقدس عام 1967. وأقصى ما يمكن أن نسمعه حتى من أشدّ الأصدقاء إخلاصا هو التنديد بما يقوم به الكيان الصهيوني أو الإدانة لهذه الأعمال، أو التبرير من الآخرين بأن المحكمة الإسرائيلية أصدرت أمرا بإزالة المنازل غير الشرعية، وكأن الكيان القائم على الاحتلال والقتل والاغتصاب والتشريد، لديه قانون أو يأتمر بأوامر الشرعية الدولية أو القوانين الدولية. ورغم أن تدمير المنازل هو خرق لاتفاقية جنيف الرابعة فلا أحد يذكر ذلك أبدا أو يحاول وضع آلية دولية لإرغام الكيان الصهيوني على الالتزام بالشرعية الدولية. وهذا بالضبط ما هو سار على الاستيطان منذ عشرات السنين، حيث يعتبر الاستيطان غير شرعي وفق قوانين وتصريحات وتأكيدات كل الدول في الغرب، ومع ذلك فقد ابتلع الاستيطان مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية حتى بعد تقرير ميتشل في عام 2001 الذي دعا فيه إسرائيل إلى وقف الاستيطان، ولم توقف الاستيطان طبعا، ولكن إجراء ما لم يتخذ لإجبارها على وقف ذلك.

من ناحية أخرى، لقد لاحظ العالم أن قلة نادرة من المبعوثين الدوليين الذين صُعقوا لما رأوه في غزة من دمار وخراب وجرائم حرب، تجرأوا على انتقاد ما قامت به إسرائيل من أعمال وحشية ووجهوا اللوم لكلا الطرفين القاتل والضحية، كما فعلت منظمة حقوق الإنسان كي لا تجلب الويلات على نفسها إذا أدانت إسرائيل أو تحدثت بموضوعية عن حجم الجرائم المرتكبة. ولذلك يلجأ البعض إلى تأريخ مأساة غزة في أفلام وثائقية كما فعلت دار الفنون الحضرية الفرنسية بعنوان «سينمائيون ضد الحرب والاحتلال»، وذلك لإطلاع الجمهور على مأساة غزة التي تتعرض للحصار منذ عام 2005 ضاعف آثاره الهجوم الإسرائيلي الأخير على القطاع. وتشهد الأعمال المقدمة أن غزة أضحت منذ عام 2005 عبارة عن غيتو في الأرض المقدسة. ولكن توصيف ما تقوم به «إسرائيل» من جرائم عقاب جماعي وتطهير عرقي يبدو غير ممكن باللغة السياسية الدارجة، ولذلك يمكن فقط الإشارة إليه من خلال أفلام أو قصص تتأرجح بين الواقع والخيال كي لا يؤدي المشهد الإجرامي إلى انبعاث مشاعر الحقد والغضب على كيان غاصب.

والسؤال هو إلى متى سيبقى العالم برمته ضحية الإرهاب الإعلامي والنفسي الإسرائيلي الذي يشكّل سيفا مسلطا على رقاب كل من يتجرأون على قول الحقيقة، أو دعمها، أو البحث عنها، أو المطالبة باتخاذ موقف جريء لصالح الحق والعدالة. فأصحاب المسؤوليات والموظفون الكبار يعرفون أن إدانة «إسرائيل» لأي سبب كان، تعني فتح أبواب جهنم عليهم في الإعلام، أو التخطيط لاغتيالهم، إذا كان الأمر خطيرا، أو إنهاء مستقبلهم السياسي. وهذا الإرهاب الإعلامي والسياسي الذي تمارسه «إسرائيل» منذ سنين متلازم مع إرهابها ضد الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه ومكمّل له، كما أنه أصبح أداة أساسية من أدوات تنفيذ مخططاتها الاستيطانية والعنصرية وبناء جدار الفصل العنصري والحفاظ على الكانتونات التي وضعتها لشعب فلسطين في كل مكان. ولذلك فإن هدم ثمانين أو تسعين منزلا في القدس لعوائل بريئة تعيش على أرض الآباء والأجداد يغدو خبرا مريبا لا تتجرأ الصحف الغربية حتى على ذكره حيث تحتاج لبحث مطوّل كي تجد وكالة أنباء تذكره على استحياء وتحوّله إلى «إفراغ منازل» بسبب «عدم شرعيتها» وهدم «الهياكل أو البنى» كي لا يُقال بيوتا ولا يتضح حجم الجريمة التي ينوون ارتكابها بحق سكان يقفون تحت احتلال بغيض. أما اعتقال العشرات من خيرة الشباب الفلسطيني وتقييد أيديهم خلف ظهورهم وهم معصوبو الأعين بعد أن جردتهم من معظم ملابسهم في منظر مهين، فهذا ما لا ترد على ذكره وكالات الأنباء ولا يندرج ضمن مفردات لوائح «حقوق الإنسان». كل هذا حدث بعد وقف إطلاق النار في غزة ودون أن تطلق الفصائل الفلسطينية أي صاروخ على سديروت أو على أي مكان آخر، كما كان يحدث منذ عام 1948 القتل والتهجير والاستيطان بذرائع مختلفة. ولذلك وجب القول لمن كانوا واهمين إن صواريخ المقاومة هي التي جلبت الوبال على الشعب في غزة، نسأل من الذي يتسبب اليوم بمأساة المقدسيين في القدس والتخطيط لهدم مآويهم ومنازلهم؟ ومن الذي يتسبب باعتقال العشرات من الشباب الفلسطيني في الضفة ويقصف ويقتل المدنيين الأبرياء ويهدم منازلهم في غزة؟، أو ليس هو الاحتلال البغيض ذاته الذي يخترع الذرائع للاستمرار في ممارساته العنصرية وعمليات القتل والتهجير والتطهير العرقي وهي الأساليب التي اتبعها وما يزال في فلسطين منذ أوائل القرن الماضي. تخيلوا لو أن ما تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين يمارس من قبل أي حكومة في أي مكان في آسيا وأفريقيا، ما الذي يمكن أن يحدث؟ كان يمكن أن تتخذ قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع وتتخذ إجراءات فورية وحاسمة ضد المسؤولين، ولكان معظمهم الآن في محكمة الجزاء الدولية، وذلك حرصا على حقوق الإنسان ورأفة بالمدنيين الأبرياء ودفاعا عن المثل الغربية في الاهتمام بحياة وكرامة الإنسان.

لا شك أن الإدارة الأمريكية الراحلة ومحافظيها الجدد قد وفروا غطاء هائلا لهذا الكيان وممارساته، ولإرهاب العالم كي لا يجرؤ أن يتحدث ضد هذا الكيان ومجرميه، أما وقد رحل هؤلاء اليوم وبدأ العالم يرى ويعلم ويسمع، فإننا نتوقع الحدّ الأدنى من احترام الذات واحترام الآخرين والوقوف في وجه أسوأ نوع من أنواع الإرهاب يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني الأعزل من أمنه وحياته ومستقبل أطفاله. لم تعد الإدانة والتنديد والدعوة للامتناع، كافية على الإطلاق، ولا بدّ من التأكيد على ضرورة اتخاذ إجراءات رادعة وحقيقية في وجه أسوأ أنواع إرهاب متخف عرفته الإنسانية في زمننا الحالي. قد يقول البعض إن استخدام الولايات المتحدة حقّ الفيتو لدعم جرائم الكيان الصهيوني لم تبدأ مع إدارة بوش ولن تنتهي مع انتهاء فترتها، ولكنّ ما رآه وسمعه العالم في العدوان على غزّة قد أوضح حقيقة هامة للجميع وهي أنّ سياسة الاحتلال والاستيطان تسير وفق برنامج مدروس هدفه تهجير وقتل وترحيل السكان الأصليين وفق نظام الإبادة والعقوبات الجماعية وأن مؤامرة الصمت أصبحت خطيرة جدا وغير مقبولة. لقد عادت القضية الفلسطينية إلى مركز الضوء بعد أن سادها غموض متعمّد لفترة طويلة، فهل ستعمل المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية والمصالحة العربية على تنسيق الجهود وتوحيد الكلمة كي لا يتجرأ الأعداء على شنّ العدوان، ولا يتجرأ المحايدون على الصمت المريب.

www.bouthainashaaban.com