الكنيسة.. و«التسونامي»!

TT

«إذا لم تستح فاصنعْ ما شئت»

(حديث شريف)

قبل بضع سنوات، وفي أعقاب اعتراض النائب والوزير اللبناني السابق سليمان فرنجية على موقف للبطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير، تجمّع مناصرو فرنجية أمام دارته هاتفين «إنت البطرك يا سليمان!».

يومذاك بدت القصة وكأنها مجرّد ردة فعل عفويّة لقاعدة شعبيّة عشائريّة الولاء لزعيم تقليدي تغضب لغضبه من دون أن تعرف لماذا غضب..

غير أن اجتراء جماعات مسيحية ومارونية أخرى على مقام البطريرك وشخصه يدلّ على وجود أزمة حقيقية في «الثقافة السياسية» لبعض المسيحيين، وبعض الموارنة بشكل خاص، تقوم على الاستخفاف بالمؤسّسات والشطط في المغامرة والمكابرة أمام قوة الواقع ورفض التعلم من الأخطاء.

ووصول الأوضاع إلى حد اضطرار قيادة الكنيسة إلى عقد مؤتمر صحافي لوضع الأمور في نصابها لوّحت فيه باللجوء إلى «تأديبات» تصل إلى «الحرم الكبير» يعني أن هناك مسيحيين في لبنان فقدوا ليس المنطق فحسب.. بل غريزتي حب البقاء والدفاع عن النفس أيضاً، وهاتان غريزتان تتمتع بهما حتى الفصائل الأدنى من الإنسان في سلّم التصنيف البيولوجي.

جزء من المشكلة طبعاً الجهل بالتاريخ نتيجة سوء قراءته.

فالمسيحيون – والموارنة بالذات – صاروا أصلاً قوة سياسية في جبل لبنان لسببين اثنين أساسيين، هما: أولا انتصار «المؤسسات» على «الإقطاع» التقليدي الذي أفرز انتخاب البطريرك بولس مسعد ذي الجذور الفلاحية (1854 – 1890) الذي رعى «ثورة طانيوس شاهين» العامية الفلاحية. وثانياً نجاح قياداتهم في فهم المناخين الإقليمي والدولي والاستفادة منهما.. بدءاً بعلاقة الأمير بشير الثاني الشهابي مع محمد علي حاكم مصر.. وانتهاء بالرعاية الفرنسية بعد أحداث 1860 الدّموية التي أثمرت بدايات الكيان اللبناني المعاصر مجسّداً بـ«متصرّفية جبل لبنان» تحت حكم متصرف مسيحي من رعايا الدولة العثمانية.

منذ ذلك الحين حافظ مقام البطريركية على أهمية معنوية كبرى، ولعب بعض البطاركة كالبطريرك إلياس الحويّك عام 1919 دوراً مباشراً خلال مؤتمر فرساي/باريس في تأسيس كيان «لبنان الكبير» (الحالي) عام 1920.

وعندما عصفت رياح التغيير بالمنطقة العربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس دولة إسرائيل، ومن ثم تبدّل مواقع القوى العالمية، ولاسيما عام 1956 في «أزمة السويس»، استشرف البطريرك الماروني بولس المعوشي الأحداث ووقف علناً ضد التجديد للرئيس كميل شمعون في ظروف تشنّج وتحدٍّ إقليمي شديد. ومن ثم أيّد انتخاب خلفه الرئيس فؤاد شهاب عام 1958، لأنه أدرك أن القطبيّة الفرنسية البريطانية زالت وحلّت محلها القطبيّة الأميركية السوفياتية.

في تلك الفترة كان المزاج الماروني مع شمعون وضد البطريرك، الذي لقّبه البعض في حينه «محمد المعوشي» مشكّكاً في مسيحيته، لكن الأيام أثبتت حكمة المعوشي وبُعد نظره.

وعندما ذرّت الفتنة قرنها في لبنان في أواسط السبعينات كان البطريرك أنطونيوس خريش، ابن الجنوب والمطران السابق لصيدا والشوف، صوت الاعتدال والدّعوة إلى التروّي والتلاقي.. بينما اختار غيره في الشارع المسيحي طريقاً آخر.

وبعد سنوات ثقيلة من الدماء والدمار حصل ما حصل.. لتُدفَن الفتنة في الطائف بتسوية معتدلة خسر المسيحيون خلالها ما كانوا يعتبرونها «امتيازات تاريخية». الا ان عقلاءهم، وعلى رأسهم البطريرك الحالي نصر الله صفير، استوعبوا الدرس جيداً فأيّدوها ودعموها، ولكن مجدّداً، رفضها صوت التطرّف والمقامرة بالمصير.. ولا يزال.

ومنذ الطائف، ورغم الهيمنة الأمنية السورية على لبنان، كان عند البطريرك صفير الشجاعة الكافية للصمود والمواجهة.. بينما كان صوت التطرّف والتعصّب المجلجل «في الهريبة كالغزال».. مستقراً في عاصمة النور باريس. وكان نداء مجلس المطارنة في سبتمبر (أيلول) عام 2000، برئاسة البطريرك صفير، فاتحة التحرّك الحقيقي لإنهاء الهيمنة بعد انعدام مبرّر استمرارها في أعقاب زوال كابوس الاحتلال الإسرائيلي عن جنوب لبنان. وعام 2001 رعت البطريركية «لقاء قرنة شهوان» للشخصيات المسيحية الناشطة في الساحة اللبنانية، الذي كان في صميم مطالبه عودة القيادات المنفية في الخارج وإطلاق سراح المسجون منها داخل لبنان والإفراج عن المعتقلين في السجون السورية. ثم في العام ذاته، رعت «مصالحة الجبل» عام 2001 التي شكّلت بمباركة صفير طيّاً لصفحة أليمة من التباعد بين أبناء الوطن الواحد من المسيحيين والدروز.

طوال هذه السنوات وصولا إلى فبراير (شباط) 2005 عندما وقع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، ثم مسلسل الاغتيالات الذي تلى انسحاب القوات السورية من لبنان، لم تتغيّر ثوابت البطريرك صفير. بل ظل ثابتاً من دون مزايدة، من ناحية لأن مسيحيّته ليست بحاجة إلى إثبات، ومن ناحية ثانية لأنه على المستوى السياسي واجه حين كان مطلوباً منه المواجهة، وصفح حين كان من المصلحة الصفح، وأيّد صيغ التعايش المطروحة لأن العقل والمنطق يؤيدانها.

فما تحقّق للمسيحيين في «اتفاقات الطائف»، أي «المناصفة» (مع المسلمين) لن يتحقّق لهم إذا ما انقلبوا عليها.. وفي أفضل الأحوال لن يكون لهم أفضل من «المثالثة» (مع الشيعة والسنة).

ولذا بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي ظل حالة التعطيل السياسي التي غطاها «التيار العوني» لدى انقلابه على رفاق الدرب وانضوائه تحت رايتي «حزب الله» ودمشق، رأت البطريركية أن استمرار الوضع الانقسامي للمسيحيين سيفضي إلى مزيد من النكبات. ومن هنا، جاء تأييدها المهذب لوجود «قوة وسطية» تحرّك المسيرة وتنهي التعطيل والانقسام وتخفّف من الاحتقان.

بعض سيئي الظن بنيّات البطريركية ربما اعتبروا هذه «القوة الوسطية» مقدمة لبناء كتلة على رأسها مسيحي ماروني – هو في هذه الحالة رئيس الجمهورية –. وتريد منها البطريركية أن تحتل موقعها في الساحة جنباً إلى جنب مع كتلة «قوى 14 آذار» التي يتهمها غلاة التطرف المسيحي الانتحاري بأنها كتلة قيادتها مسلمة سنّية بتصرّف آل الحريري، وكتلة «8 آذار» التي يدرك أي شخص لا يعاني من مرض ألزهايمر أنها مطيّة لـ«حزب الله» ومحور طهران دمشق.

ولكن حتى هذا الخيار الذي يمكن أن يحدّ من تهميش المسيحيين يرفضه اليوم بعض المسيحيين. فهؤلاء، الذين يضمون قادة «تسوناميين» وأيتام وصاية وتوابع، يثبتون اليوم من جديد أنهم فقدوا نهائياً القدرة على الفهم.. تماماً كما فقدوا ميزة الحياء وغريزة البقاء.