العدالة موجودة لكنها تنتقي ضحاياها!

TT

كنت كلما نزلت من بيروت إلى دمشق، أعرِّج على مقهى الـ «هافانا». كان بي حنين دائم إلى شُلَّة رفاق الخمسينات. لكن ذلك الشاب الفضولي اللصيق بالشلة على مقعد مجاور، كان يثير اهتمامي. لم يكن يشارك في الحديث، إنما كان مستمعا بانتباه، وفمه يفترُّ عن ابتسامة بلهاء. طمأنني الرفاق بأن الشاب هو نجل السفير المتقاعد محمد الكسار. وكان الكسار ديبلوماسيا فاضلا حسن السيرة والسمعة، ومثَّل سورية في عدة بلدان، بينها الهند والكويت.

كانت دمشق مشهورة بمقاهي الثرثرة السياسية. عندما توفي المثقف الساخر صلاح المحايري عميد ثرثاري مقهى «البرازيل» الصغير، أغلق المقهى أبوابه. كاد مقهى «هافانا» المقابل له يغلق أبوابه أيضا مع إلغاء السياسة، لولا أن تداركه أحد رواده السابقين. فقد أمر الرئيس الراحل الأسد بالإبقاء عليه. لعل الحنين كان يكابده، مثلي، إلى جلسة فيه لا يقدر عليها بعدما أصبح رئيسا.

كان مقهى الـ «هافانا» برج بابل: ضباط مسرحون. ساسة محترفون. زملاء صحافيون. عملاء مخابرات. بل جواسيس غير معروفين. كوهين أشهر جواسيس إسرائيل يجلس قبالتي مع نخبة من المثقفين. كان من الروّاد أيضا صديقنا المشاكس ماجد شيخ الأرض الذي لم أعرف أنه أدخل كوهين إلى سورية، إلا بعد اعتقاله.

كلما جئت دمشق ودخلت المقهى، وجدت الشاب في جلسته المعتادة بقربنا. كان مثيرا لعجبي. هل هو الكسل؟ الانقطاع عن الدراسة؟ البطالة؟ أم هي الرغبة في إتقان فن الثرثرة والدعابة الشامية اللاذعة؟

دارت الأيام. انقطعت عن زيارة دمشق منذ أوائل السبعينات. ثم رحلت بعيدا مع الصحافة اللبنانية المهاجرة إلى أوروبا. في الوسط الصحافي بلندن وباريس، بدأت تطرق سمعي قصص مغامرات وثراء رجال الـ «نوفو ريش» العرب من تجار سلاح ومخدرات وسلع مهربة. توسعَت القصص، فافترشت بمبالغاتها وصورها أعمدة الصحافة الأوروبية والأميركية المنحازة لليهود وإسرائيل.

استوقفني عنوان مثير في صحيفة إيطالية: «ملاحقة تاجر السيارات المسروقة السوري منذر الكسار». من هو هذا المنذر؟ آه! تذكرت. هو «ما غيرو» ذاك الشاب صاحب الابتسامة البلهاء. والسيارات الفارهة المسروقة؟ لعلها كانت مهربة من لبنان، حيث كانت المخابرات السورية تقوم بدور «حاميها حراميها». وما علاقة الشاب بعالم المخابرات السحري؟

أغلب ظني أن قبضة خفية قوية انتشلت منذر الكسار من مقهى الكسالى، ليصبح بالمصادفة ذراعا لها في عالم مشبع بشراهة المال، عالم الثراء غير المشروع الذي اجتاح سورية وغيرها، وما زال يروِّعها. إنه الحلف الخفي أو المعلن بين رجال النفوذ ورجال المال والمغامرين البسطاء. منذر الكسار واحد من مئات وربما ألوف العرب الذين رشحتهم عاديّتُهُمْ وسوء استخدام السلطة، إلى اقتحام الحلقة الجهنمية، حلقة الاتجار بالمحرَّمات. على مدى السنين، رحت أتابع بفضول الصحافي مغامرات منذر الكسار. من متهم بالمتاجرة بالسيارات المهربة إلى تاجر سلاح عالمي ينعم بثراء فاحش وحياة مرفهة. نجومية تتداول أخبارها الصحافة. شهرة يشتهيها نجوم هوليوود، وترشحه بطلا لرواية من روايات جون لوكاريه.

كان منذر يقول عن نفسه إنه «تاجر سلاح قانوني يبيع السلاح من دولة إلى دولة». لكن مَنْ يؤمِّن له سلعته؟ هل القبضة الخفية في «دولة المنشأ»؟ أم أنه بات يتمتع باستقلالية تمكنه من إقامة مستودعات في أوروبا الشرقية يختزن فيها «كل ما لذّ وطاب» للمنظمات المسلحة والمافيات؟

غير أن هذا الكسّار كسر قانون الصمت الذي تفرضه مهنته. بات ثرثارا مفاخرا بعملياته وصفقاته ومغامراته. إنها سذاجة تاجر عديم الثقافة. زاد الطين بلّة أن الخطاب السياسي التقليدي في عالمه العربي السابق، جعله يعلن في أوروبا أنه نصير للقضية الفلسطينية، ولكل منظمة مقاومة لأميركا.

كان من الطبيعي أن تتفتح العيون على المغامر الأسطوري العربي: حسّاد ومنافسون. محققون قضائيون. أجهزة مخابرات.. لكن حظه يفلق الصخر. نجا بأعجوبة من عشرات الاتهامات والقضايا التي وضعته في السجن في أكثر من بلد. لعل خدماته التي قدمها، باعترافه، لأكثر من جهاز مخابرات، بما فيها المخابرات الإسبانية والأميركية، ساعدت في إنقاذه. الصحافة الأميركية والأوروبية المتحيزة ضد العرب أَضْفَت على مغامرات الكسّار فن المبالغة المتعمدة والإثارة: اعتقال الكسار في ألمانيا حاملا جوازَ سفرٍ برازيليًّا «مزوَّرًا». الكسار متورط في عملية «إيران غيت» التي اشترت فيها إيران الخميني أسلحة إسرائيلية. الكسار دَسَّ المتفجرات في «عفش» طائرة لوكربي المنكوبة. الكسار موَّل وزوَّد فدائيي الفلسطيني محمد عباس الذين احتجزوا السفينة أكيلي لاورو وقتلوا سائحا يهوديا أميركيا مُقعَدا، وقذفوا بجثته إلى البحر.. بل كان الكسار نفسه «يفلفل» في بلاهة مؤذية له عملياته. فقد ادّعى مرة أنه فسخ عقدا مع شركة بريطانية، بعدما تبين له أنها تريد منه تأمين سلاح لقاعدة ابن لادن.

الحقيقة أن الكسار حمل الجنسية الأرجنتينية التي سهَّلت عليه نشاطاته المشبوهة في أميركا اللاتينية. لكن إقامته الدائمة كانت في منتجع ماربيّا على شاطئ كوستا دل صول الإسباني. الإقامة المسترخية هناك مكَّنته من عقد صفقاته والاجتماع بعملائه في فيلاته المتعددة، والاحتكاك بمشاهير العرب الذين يقصدون ماربيا الأندلسية سُوَّاحا لا فاتحين. غير أن الإقامة الإسبانية لم تكن دائما ناعمة ومريحة. طردته إسبانيا ثلاث سنوات بحجة نشاطاته المتعارضة مع أمنها. ثم ما لبث أن وقع في براثن المحقق الشهير بالتاسار غوراثون الذي سجنه وقدمه إلى القضاء. لكن الكسار برهن مسبقا على براءته. بالفعل، صدر حكم العدالة الإسبانية بالإفراج عنه، بعد اعتقال دام سنة في التسعينات، في مقابل كفالة بلغت ثمانية ملايين دولار. نجح الكسار في كسر وتفنيد شهادة عشرات شهود الاتهام. أثبت أنه تعرض للابتزاز، حتى من المحقق غوراثون.

واصل الكسار حياته الباذخة ومغامراته اللامبالية. نشاطاته في أميركا اللاتينية وضعته مباشرة في صدام مع المخابرات الأميركية التي دبرت له فخا، ظهر فيه رجالها كعملاء لمنظمة مقاومة كولومبية. لكن لماذا سلّمته لأميركا حكومة ثباتيرو الاشتراكية الإسبانية الصديقة للعرب؟ ربما الإلحاح الأميركي عليها من جهة، والضيق به وبمشاكله التي لا تنتهي، من جهة أخرى. العدالة الأميركية أصدرت قبل أيام حكمًا بسجن الكسار ثلاثين سنة. إذا عاش الكسار 94 سنة، فلن أعيش أنا لأشاهده يغادر السجن في عام 2039.

العدالة الإنسانية موجودة. لكنها تعرف كيف تختار ضحاياها. لماذا نصبت أميركا الفخ للكسار، ولم تنصبه أيضا للمافيات التي يديرها، مثلا، جنرالات إسرائيل المتقاعدون، ويبيعون السلاح حتى إلى المنظمات اليسارية والمخدّراتية المعادية للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية؟

كما حياة منذر الكسار، فقد تقاطعت حياتي الصحافية مع عوالم السياسة والتجارة والقضاء والمخابرات والحروب والجواسيس. لولا نباهة العدالة الفرنسية لكنت اليوم مُدانًا كشريك للمغامر الإرهابي الشهير كارلوس. أمانة الكلمة مع النفس والغير كانت دائما المخرج الأمين. ولعل أمانة الكلمة تنقذني أيضا من الكومبيوتر الذي حوّر بلا مبالاة «عباس» إلى «حماس»، فبدا حديثي في الثلاثاء الفائت، وكأني أتهم المنظمة بالخضوع لضغط أميركا للتفاوض مع إسرائيل.