إعادة العلاقات وما ليس في الحسبان

TT

يبدو المسؤولون الروس، الذين عادة ما يكونون متجهمين، مرحين في وصف أول تعاملاتهم مع إدارة أوباما. وصرح أحد مسؤولي وزارة الخارجية الروسية بقوله: «إننا نشعر بالحماس».

ولم يكن وعد نائب الرئيس بايدن، بـ«إعادة» العلاقات الأميركية الروسية إلى وضعها فقط هو الذي شجع على هذه البهجة من قبل حكومة فلاديمير بوتين. فقد أثمرت أول زيارة قام بها وفد أميركي رفيع المستوى منذ 10 أيام سريعا عن اتفاق على جدول أعمال يبدأ بمعاهدة جديدة لمراقبة الأسلحة النووية، بدلا من معاهدة ستارت، التي ينتهي العمل بها في نهاية العام الحالي. ويدور نقاش عن إعادة إقامة لجان تعاون ثنائية، وعن دعم الولايات المتحدة لعضوية روسيا في منظمة التجارة العالمية. ويشعر الروس بالبهجة بما أدركوا أنه تراجع أولي لأوباما عن الاتفاقات، التي عقدتها إدارة بوش مع بولندا وجمهورية التشيك من أجل البدء في إقامة دفاع صاروخي أوروبي.

لذلك هل تعد هذه بداية لعصر جديد من التعاون بين واشنطن وموسكو، هل هي انفراجة يمكن أن ينتج عنها تقليص آخر للترسانات النووية، والمزيد من الضغط المؤثر على برنامج إيران النووي، وتقليل حدة التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وأوروبا حول كيفية التعامل مع روسيا؟ بعد قضاء عدة أيام في موسكو بمصاحبة مجموعة من الأميركيين والألمان، نظمها صندوق مارشال الألماني، تولدت لدي بعض الشكوك المهمة.

يتعلق الشك الأول بالاقتصاد الروسي، وهو أساس قبول الروس لنظام حكم بوتين الأوتقراطي، وقد هبط بسرعة أكبر بكثير من أي اقتصاد آخر في الغرب المتقدم. ويشهد العام الحالي، على أفضل حال، انعكاسا في الإنتاج الروسي، فبعد أن وصل معدل النمو في عام 2008 إلى 8 في المائة، سيصبح معدل الانكماش 2 في المائة. وقد انخفض الإنتاج الصناعي في شهر يناير (كانون الثاني) بنسبة 16 في المائة، وارتفعت نسبة البطالة إلى ما يزيد على 8 في المائة. ويتوقع محللون مستقلون ارتفاع معدل البطالة إلى 15 في المائة، وأن ينفد مخزون الحكومة الاحتياطي من الدولار، الذي كان كبيرا، في أي وقت من العام المقبل.

وتظل هذه المدينة خزانة عرض للأضواء المبهرة والمرور الخانق، ولكن بدأت تظهر خارج العاصمة مظاهرات شعبية وإضرابات. ومع جفاف تمويل الكرملين، تبدي الحكومات المحلية علامات تمرد. وفي موسكو ذاتها توجد إشارات إلى وجود خلاف قبيح بين العشائر السياسية المتنافسة حول بوتين، بشأن كيفية تقسيم الأموال المتبقية.

كل هذه الأعراض كانت مألوفة من «الفوضى» السياسية والاقتصادية في روسيا في فترة التسعينات، وكان الإنقاذ منها هو الأساس الذي أقام عليه بوتين شعبيته الداخلية.

ولم يكن من المفاجئ أن أسمع رجل أعمال أجنبي محنك يتفق مع تقييم حركة المعارضة الديمقراطية، الذي يكاد يكون عالميا: «لقد انتهى مذهب بوتين». ويقول غاري كاسباروف بطل الشطرنغ السابق، الذي تحول إلى منشق: «سيؤدي هذا الموقف في النهاية إلى تغيير سياسي. ما هو نوع هذا التغيير؟ لا أدري».

وبالإضافة إلى هذه الشكوك، توجد أيضا صيغة بوتين السياسية المحلية التي لا تتغير، القمع الوحشي للمنتقدين مثل كاسباروف، وجرائم القتل الغامضة لكبار الصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان، والدعاية التلفزيونية المستمرة التي تصف روسيا بالقوة العظمى المحاطة بالأعداء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. يقول أرسيني روجينسكي من جماعة ميموريال لحقوق الإنسان، التي تم نهب مكتبها الرئيس في سانت بطرسبرغ على أيدي قوات الأمن في الفترة الأخيرة: «بالطبع تتفهم السلطات أنها تحتاج إلى إقامة علاقات جيدة مع أميركا الآن. ولكنها أيضا تفهم أن الشعب يجب أن يعرف من هو العدو، ولماذا لا نعيش في حالة جيدة، والسبب هو أميركا. وهذا هو التناقض».

وأرادت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس، التي كانت طالبة قديمة في روسيا، أن تشير إلى أنه تاريخيا ارتبط الركود المحلي الروسي المتزايد بالمزيد من العداء الخارجي. فهل تكون هذه الفترة استثناء؟ يبدو أن إدارة أوباما والحكومات الأوروبية ترجو ذلك، ولم يبطئ قتلة موسكو السياسيون من اندفاعهم «لإعادة» العلاقات. ولكن يغطي الرد الروسي المبتهج على مجموعة من الخطوات السياسية، التي تعد على أفضل الأحوال غامضة.

وعلى الرغم من مشكلاتها الملحة المتعلقة بالميزانية، إلا أن حكومة بوتين قدمت 2.1 مليار دولار مساعدة في الشهر الحالي إلى حكومة قيرغيزستان، التي أعلنت فجأة غلق قاعدة أميركية مهمة من أجل العمليات، التي تجرى في أفغانستان. وقدم المسؤولون الروس، في ابتسامة، ممرا للإمدادات إلى أفغانستان عبر روسيا، مما يمنح لبوتين فرصة خنق عمليات الناتو. وكان المسؤولون هنا واضحين في وصف هدفهم: أن نتعامل كشريك مكافئ لواشنطن في تقرير مستقبل أفغانستان.

وما زالت هناك الإشارات المزعجة إلى طموح بوتين في إخضاع جورجيا، كما يظهر في التعبيرات الهستيرية، التي يصف فيها المسؤولون هنا حكومتها الديمقراطية الموالية للغرب. ويقدم بافيل فيلغينهاور، المراسل العسكري المحترم في جريدة «نوفايا غازيتا» المستقلة، تفاصيل استنتاجه بأن إمكانية القيام بعملية عسكرية روسية هذا الصيف «للانتهاء من عملية الإطاحة بالرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، مرتفعة بدرجة مثيرة للخوف».

وكالعادة، يسخر هؤلاء المراهنون على بداية ربيع جديد في العلاقات الأميركية الروسية من مثل تلك التكهنات. ولكن اعتاد فيلغينهاور على ذلك. وقد وجد إعراضا في العام الماضي أيضا، عندما تنبأ بما حدث فعلا من أن الغزو الروسي لجورجيا سيكون في أغسطس (آب).

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»