خطوة خطوة على صراط عبد الله بن عبد العزيز

TT

على إيقاع لافت لانتفاضة دبلوماسية أميركية لافتة في كل الاتجاهات من الصين إلى الشرق الأوسط، توَّجها الرئيس باراك أوباما يوم الجمعة 27-2-2008 بالإعلان عن بداية حقبة جديدة في الشرق الأوسط تعتمد «النهج المبدئي» مع سورية وإيران و«مقاربة أذكى» من العزل، متحدثا في الوقت نفسه عن نهاية الحرب في العراق، للتركيز على أفغانستان، وأيضا على إيقاع صرخات مالية نتيجة انهيارات في عالم المال والأعمال هزت كبريات المصارف والشركات، لم يسبق أن كانت على هذه الدرجة من الخطورة على مدى أكثر من نصف قرن.. على هذين الإيقاعين يعيش العالم العربي حالة من اليقظة تواكب تلك الدبلوماسية والصرخات وتتمثل في أن استيعاب مبادرة التسامح التي أهداها الملك عبد الله بن عبد العزيز للأمتين، كونه يربط في استمرار مصلحة الأمة العربية بمصلحة شقيقتها الأمة الإسلامية، يشق طريقه بنسبة ملحوظة من الوعي ونسبة أكبر من الاقتناع بأن هدْر الفرص لا يأتي بغير المزيد من التعقيدات، في حين أن اغتنام الفرصة مكسب كبير وبالذات إذا كانت صادرة من قائد تعنيه كثيرا مصلحة بني قومه، وأمنيته مرضاة رب العالمين عليه، وهاجسه تعويض الرعية وبسرعة قياسية الكثير مما يرى أنها تستحقه، ونعني بهذا القائد عبد الله بن عبد العزيز الذي يعزز المبادرة باثنتين ويضيف إلى الإنجاز إنجازات، ويبتكر للإصلاح وفي الوقت المناسب الصيغة الحكيمة التي تُبقي على أساسات الاستقرار ثابتة.

ولأنه ضد الحالات العربية الشاردة ويشعر أنه المسؤول عن رسم طريق الهداية ما دام كبير القوم، وإن كان ليس هو المسبِّب لسقطة لسانية حدثت أو خذلان لمسعى حميد قام به، فإنه لم يكتف بأن قال في قمة الكويت ما معناه هذه صفحة طُويت وعلينا البدء بكتابة صفحة التآلف الذي يحقق التوحد، وإنما أتبع القول بتحفيز مَن عليهم العودة عن رهانات فأرسل إلى الرئيس بشَّار الأسد، المسؤول الهادئ في التخاطب الذي لا تفارقه الكياسة وهو يطرح الأفكار ونعني به الأمير مقرن بن عبد العزيز. وفي الوقت نفسه أراد من هذا التحفيز إعادة الاعتبار إلى الحدث الذي لم يأخذ رونقه الكافي، وبذلك ضاعت على سورية مناسبة طالما انتظرَتْها، ونقصد بذلك القمة العربية الدورية التي كانت ستكتسب ذلك الرونق لولا أن المشاركة العربية فيها كانت غير مكتملة. كما أنه في الاتجاه نفسه، أوصى الرئيس حسني مبارك خيرا وصبرا بحركتيْ الصراع الفلسطيني المبغوض «فتح» و«حماس»، ومن دون أن يزعجه في شيء أن يُكلَّل المسعى الحميد المصري بالنجاح وهو ما أثمر نتائج طيبة، فهو يتطلع إلى أن يحل الوفاق بين الفلسطينيين وعلى نحو تطلُّعه لإحلال الوفاق بين اللبنانيين، ومن هنا كانت توجيهاته إلى سفيره الدكتور عبد العزيز خوجة الذي اصطفاه في ضوء استيعاب السفير لروحية رؤية مليكه الوفاقية ليكون وزيرا للإعلام والثقافة. وفي تطلُّعه لإحلال الوفاق بين الفلسطينيين لا يتوقف خادم الحرمين الشريفين عند أن «فتح» و«حماس» خذلتا مجتمعتيْن أو إحداهما، وفي هذا الأمر قولان على نحو لغة أهل الإفتاء المزدهرة منذ حين، محاولته التي ستبقى حاضرة في الذاكرة العربية كدليل على أن كبير القوم يتصرف في لحظة الشدة تصيب القضية بكل ما أعانه الله من همة ونخوة، وهذا ما فعله عندما انتقل من الرياض إلى مكة لكي يُبقي الحوار بين الرئيس محمود عباس (ممثلا فتح والسلطة الوطنية) وقطبيْ «حماس» خالد مشعل المغترِب دائما عن الأرض الفلسطينية وإسماعيل هنية الحاضر دائما على هذه الأرض، ولكي يطمئن أن الحوار يتم تحت رقابة وجدانه محروسا بقلقه على القضية، خشية أن يصيبها مكروه ويصيب الشعب الفلسطيني أذى بالغ على خلفية عدم التوافق. وهذا ما حدث، ذلك أن إسرائيل انتهزت التباعد الفلسطيني، الذي وصل إلى حد انفصال «حماس» عن السلطة واستئثارها بقطاع غزة وإعلان قيام حكومة «حماسية» فيها، لا يعترف رسميا بها أحد، ونفَّذت أكثر اعتداءاتها خِسة وإجراما. وبذلك تعقدت الأمور أكثر وأكثر. ولقد بدا هذا التعقيد الذي قاد إلى ورطة وقع كبار قادة «حماس» وحركتهم وجمهورها فيها، ربما لأن الإغواء أرخى حجابا على البصيرة، وربما لأن هؤلاء القادة اعتبروا أن الفرصة مواتية لنيل المطالب بغير التمني، وذلك لأن شأن «السلطة الوطنية» سيضعف عندما يتم اقتطاع الجناح الغزَّاوي منها، وبذلك تصبح عاجزة عن التحليق ولا يبقى لها إزاء ذلك سوى التسليم بالمحاصصة المجزية.

وإلى ذلك، فكما أن الملك عبد الله بن عبد العزيز كان لن ينزعج في حال أثمر السعي المصري لدى قطبيْ الصراع الفلسطيني حوارا جديا واتفاقا من حيث المبدأ على بناء علاقة تقوم على الثقة والتعاون عِوَض الشك وهواجس اقتسام الغنائم، فإنه لن يُغلق باب ديوانه أمام الذين أقسموا اليمين في مكة المكرمة برعايته وحضوره ومساندته على أن يتفقوا، ذلك أن من جملة القضايا الأساسية عنده أن تتكاتف الأيدي الفلسطينية وبتكاتفها يتعزز التوجه الذي تلخصه المبادرة العربية فيحرِّكها مع الإدارة الأميركية الجديدة والمجتمع الدولي عموما، وبذلك يتم إعادة المبادرة إلى التداول وليس صرْف النظر عنها أو سحْبها من الطاولة ووضْعها في رف المنسيات. وعلى تقليده المستحب الذي يأخذ شكل المفاجأة القومية التي يتوق الجميع إلى حدوثها، تستوقفنا رسالته التي بعث بها إلى الرئيس حسني مبارك يوم الجمعة 27 – 2 – 2008، بعدما كان الملك اطمأن إلى أن المسعى المصري أنجز خطوة توفيقية من شأنها مساعدة «الإخوة الأعداء» على العيش النضالي المشترك. وهذه الرسالة التي تذكِّرنا روحيتها ومفرداتها بالغائب - الحاضر رحمة الله عليه الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وكيف أن أبو عبد المحسن ينتفض قولا حكيما عندما يتلقى التوجيه من عبد الله بن عبد العزيز أطال الله عمره، تندرج في ظاهرة مبادرات أبقت على الوضع العربي المرتبك في منأى عن السقوط في الهاوية، وهي في معظمها تشكِّل ما يجوز تسميته «صراط عبد الله بن عبد العزيز». وفي مبادرته المفاجئة والمستحبة يتعمد الملك عبد الله، على نحو ما يلفت الانتباه، أن يكون رد فِعْله على ما تم إنجازه في القاهرة على اليد المصرية، رسالة مبثوثة وليس مجرد اتصال هاتفي بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس مبارك يقول فيه: بارك الله بسعيك المشكور يا فخامة الرئيس وهذا عهد الأمة وعهدنا فيك وفي إخوانك الذين شاركوا في السعي وأبرزهم اللواء عمر سليمان، وإنما شاء أن يكون رد الفعل استثنائيا لكي يقف عليه الجميع، وربما لكي يكون هنالك نمط بالغ الرقي في لغة التخاطب يأخذ به من يريد خيرا بالأمة. ولم يأتِ رد الفعل استثنائيا فقط وإنما جاء غير مسبوق، وفيه إشادة بـ«مصر العروبة والإسلام» و«مصر الشعب الحر الأبي» و«عقل القاهرة المتيقظ» و«مصر الدور التاريخي». أما حصة الفلسطينيين من الرسالة ذات الـ 494 كلمة، فتنبيه لهم من «الحاقدين الكارهين لأمتنا العربية والإسلامية» ودعوة إلى «الأخ محمود عباس والإخوة في حماس وجميع الفصائل الفلسطينية بلا استثناء، بأنه آن الأوان كي يقولوا لأمتهم العربية والإسلامية وللعالم أجمع بأنهم أكبر من الجراح وأعلى من الخصومة».

إلى ذلك أيضا فإن الملك عبد الله بن عبد العزيز، بالسعي الحثيث من أجل أن تكون السُبل معبَّدة قبل انعقاد قمة الدوحة يومي 28 و29 مارس (آذار) 2009 يؤكد أمرا في منتهى الأهمية، وهو أنه يتجاوز الاجتهادات القطرية التي طالما أحدثت تقاطعات في الموقف العربي العام، وأنه يريد لهذه القمة أن تنعقد وتكون ناجحة بامتياز، وتكون المشاركة فيها بالإجماع، ولا يقتحم هدوء التشاور فيها ضيف الاجتهادات القَطَرية، التي لم تثمر نتائج مرجوة، الرئيس محمود أحمدي نجاد. وهذه النظرة للملك عبد الله هي موضع الارتياح لكل عاقل عربي وبصرْف النظر عما إذا كان هذا العربي مسيحيا أو مسلما شيعيا أو سُنيا، بدليل أن أحد حكماء رجال الدين الشيعة في لبنان الشيخ عبد الأمير قبلان نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وجد نفسه ينصح بني ملته في المملكة يوم الأربعاء 25 فبراير (شباط) 2009 بكلام تحتاج الرعية الشيعية في لبنان المنقسمة بين الولاء لـ«حزب الله» والولاء لـ«حركة أمل» بقدر حاجة الشيعة في المملكة إليه. ويقول في نداء هو أشبه بالأذان الذي يدعو المؤذِّن فيه المؤمنين إلى تأدية الصلاة: «مِن لبنان نوصيكم بأن تخالطوا الناس مخالطة، إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم معها حنُّوا إليكم، فعلينا أن نعيش مع محيطنا بعقلانية وحكمة ومداراة، وعلينا أن نتعامل مع الآخرين برفق وتواضُع وحلم، ونطالب الآخرين بالتعاون مع إخوانهم من دون غلظة وقسوة فيتركوا الناس على عقائدهم الصحيحة عندهم، ويبتعدوا عن كل إساءة، لأن الإساءة تثير الأحقاد في النفوس وتؤدي إلى عواقب سيئة نحن في غنى عنها. وعلينا أن نكون مع إخواننا في محيطنا وأرضنا وبلادنا كرماء وصلحاء وعظماء، فكونوا كما أوصانا الإمام جعفر الصادق حين قال: «كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا». تعاونوا مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، فإنه الأمين على الناس وعقائدهم، ونحن لا نريد له إلا الخير، وكونوا من الأخيار الكرام مِن الطيبين الطاهرين، فالمداراة مطلوبة لأن أعقل الناس مَن دارى الناس، فكونوا مِن خيرة الناس، ونطالب الجميع بأن يكونوا مع إخوانهم المسلمين على خير وفي وئام وسلام، فيبتعدوا عن الحساسيات والكراهية ونطالبكم جميعا بأن تكونوا عند حُسن الظن بكم، فاعملوا خيرا وقولوا صوابا وكونوا على جانب كبير من الأخلاق الحميدة في تعاطيكم مع أهلكم وابتعدوا عن كل إساءة وكونوا يدا واحدة حتى نصل إلى الغاية الشريفة..».

خلاصة القول، وبينما قطار التسامح يواصل رحلته، وبحيث إن أي مفاجآت دولية تحدث يكون الصف العربي على درجة من التوحد، فلا يقال إنه تم الاستفراد بهذا الحاكم أو ذاك في ظل الخلاف المستحكم، إن صراط عبد الله بن عبد العزيز هو الصراط الآمن وإن السلامة مأمونة في السير عليه.. وإن كان السائرون يتحركون خطوة خطوة.