ضمانة إعادة الإعمار

TT

هناك فرق بين تسييس المساعدات التي ستخصص لإعادة إعمار غزة والعملية السياسية التي يجب أن تصاحب مثل هذا المجهود حتى يؤتي ثماره ولا يضيع عبثا في الهواء، فعدم التسييس في معناه الشفاف هو ضمانة استفادة سكان القطاع من دون تمييز من المبالغ والاستثمارات التي ستخصصها الدول والصناديق المعنية لإعادة البناء هناك، بعد الكارثة الإنسانية التي لحقت بالناس هناك، وخلقت لاجئين ونازحين بلا مأوى كريم.

في المقابل، فإنه من الحصافة القدرة على رؤية واستشفاف أن المساعدات، المستهدف أن تصل إلى نحو 4 مليارات دولار، لن تتجاوز إطار المعونات الغذائية والطبية العاجلة لتأمين احتياجات آنية ضرورية، ما لم تر الدول المانحة أن هناك تحركا في العملية السياسية وضمانات بالتهدئة وعودة طويلة للحياة إلى طبيعتها، وإلا فإنها ستكون كمن يهدر أمواله في مشروعات وأبنية من دون ضمانة أنه لن يرى هذه المشروعات أو الأبنية تقصف مجددا بعد عدة أشهر لتتحول أطلالا، ومرة أخرى ينعقد مؤتمر جديد ليبحث إعادة الإعمار من جديد. وقد عكست كلمات وتصريحات الوفود المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ وقبلها هذه المخاوف، فهذه ليس المرة الأولى التي تعقد فيها مؤتمرات مانحين لتقرير مساعدات إلى الأراضي الفلسطينية، وهناك مليارات أنفقت على البنية الأساسية وبناء مؤسسات السلطة المدنية والعسكرية لتكون نواة للدولة الفلسطينية المقبلة، والكثير من كل ذلك تبخر في الهواء في القصف أو حتى الصراعات الداخلية، مثلما حدث في غزة بعد طرد السلطة من هناك وسيطرة حماس عليه.

وفي العملية الحالية، فإن الجزء الأسهل هو الحصول على تعهدات والتزامات بأرقام ومبالغ من المانحين، لكن الجزء الأصعب هو تحويل ذلك إلى أرض الواقع، وأن يراه أهالي غزة يترجم على الأرض في صورة مشروعات ومساكن ووظائف، وفي سبيل تحقيق ذلك هناك الكثير الذي لا يزال يتعين عمله، مثل آليات توصيل الأموال، والإشراف عليها في إطار الشفافية، والتعامل مع أي سلطة في ظل الانقسام الحاصل على الساحة الفلسطينية، وما هي الحكومة التي ستتولى الإشراف على ذلك محليا في ضوء واقع أن المجتمع الدولي لا يعترف إلا بالسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، بينما من يسيطر على غزة ويملك السلاح هي حركة حماس. وأول دليل على هذه المشكلات تصريحات المتحدث باسم حماس الذي حذر أمس من تسييس المساعدات، ملمحا إلى أن الحركة لن تقبل تجاهلها في هذه العملية، وذلك في إشارة إلى أن الحركة تضع مسألة سيطرتها على غزة أولا.

لكن على الرغم من العقبات المتوقعة نتيجة الخلاف الفلسطيني، وعدم وضوح النوايا الإسرائيلية، فإن هناك ما يدعو إلى التفاؤل، فهذا الحضور والالتزام الإقليمي والدولي، واستنكار حجم الدمار الذي لحق بغزة يعطي إطارا من الزخم والحماية للقضية الفلسطينية، شرط استثماره جيدا وفي إطار من الحكمة والنوايا الخالصة لمصلحة الشعب الفلسطيني، بعيدا عن أجندات إقليمية أخرى لا علاقة لها بالمصلحة الفلسطينية. وهناك أيضا بداية لتوافق فلسطيني إذا نجح في التوصل إلى حكومة وفاق مقبولة دوليا، فإن قضية آليات إنفاق المساعدات ووصولها ستكون سهلة بمعاونة صناديق ومؤسسات دولية يمكن أن تشرف على شفافية العملية.

على الجانب الآخر، فإن أي عملية إعادة بناء لن تنجح إلا بفك الحصار وإعادة العمل للمعابر حتى تعود الحياة والنشاط الاقتصادي إلى طبيعته ويتحقق قدر من التواصل بين الضفة الغربية وغزة، وهذا طبعا يتوقف على الجانب الإسرائيلي، وضغوط المجتمع الدولي عليه من أجل وقف أسلوب العقاب الجماعي، في نفس الوقت فإن الإطار السياسي الذي يعطى أملا للفلسطينيين في مستقبل أفضل ودولة مستقلة هو المظلة التي ستحكم عملية إعادة الإعمار، وهو ما يتطلب أولا اتفاقا داخليا فلسطينيا حتى يكون الصوت واحدا في التفاوض، ويكون هناك التزام موحد، وليس فصيلا يطلق الصواريخ ليفسد التفاوض على الفصيل الآخر.