العالم «المحير» في هوليوود والدول العربية

TT

لو كان لدى أحد شك في أن «العولمة» لا تزال مستمرة، فما عليه إلا مراجعة حفلات جوائز «الأوسكار» الأخيرة، التي شاهدها مليارات من البشر في مشارق الأرض ومغاربها. وربما كان في الأعوام السابقة بعض مما شاهدناه هذا العام، حتى ولو أتاحت التكنولوجيا قدرات أكبر للمحطات التلفزيونية، حتى يطل العالم على ذلك العالم السحري لدنيا السينما الأميركية. بمعنى آخر.. أن السلعة كانت موجودة، ولكن ما حدث هو أن الطلب عليها قد زاد. ومع ذلك، فإن الجديد هذه المرة لم يكن اتساع قاعدة المشاهدة، أو حتى توالي إبداعات جديدة في صناعة الفن السابع، كما يحدث كل عام، وإنما محتوى هذه الإبداعات وتركيزها على مجموعة من القيم «العالمية» المشتركة بين بني البشر.

لاحظ هنا أن الفيلم الفائز بثماني جوائز أوسكار، «المليونير المتشرد»، هو فيلم بريطاني الجنسية من ناحية الإنتاج، ولكنه جرى في الهند، وبأبطال من الهنود، وموضوعه مشتق من برنامج تلفزيوني أميركي ـ «من يربح المليون» - يحول الناس بين غمضة عين وانتباهتها إلى مليونيرات. وفاز الفيلم في النهاية بجائزة أميركية، ولكنه في النهاية وفي المعنى والمبنى كان فيلما إنسانيا بكل المقاييس. وهو إنساني، ليس لأنه تعرض لخلجات ومكنونات بشر تعرضوا لثروة مفاجئة، فذلك واجب السينما والفن الذي يضعك إزاء ثروة، أو موت، أو مصيبة من نوع أو آخر، ولكن الأهم من ذلك هو تقديم بيئة متكاملة من الفقر والإنسانية التي قد تكون لها سمات ثقافية متميزة، ولكنها تبقى إنسانية في كل الأحوال. وربما لم يكن مدهشا أبدا أن السلطات الهندية كانت ثائرة على منتجي الفيلم، لأنه يسيء إلى سمعة الهند، التي لا يريد لها الهنود إلا أن تبقى في إطار البرمجيات الإلكترونية التي تعطي كل هندي حالة من العبقرية الخاصة. وبالتأكيد فإن الهند حققت تقدما اقتصاديا وتكنولوجيًّا خلال العقدين الأخيرين، ولكنها تبقى في النهاية دولة فقيرة، وفقيرة للغاية، وما يقوله لنا الفيلم هو أنه في ظل العولمة لا ينبغي لنا أبدا أن نخجل من وجود الفقر، وإنما الأهم هو أن نعرف وجوده، وكيف نتعامل معه.

القضية هكذا باتت أكبر كثيرا من الهند. وفي كل الأحوال، فإن الهند كانت موضوعا مثيرا للسينما العالمية، وفي أفلام كثيرة فازت بالأوسكار أيضا، ولكن الجديد هو «عولمة» القضية التي ربما كانت موجودة في أروقة المنظمات الدولية، ويتحدث عنها برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وفي كثير من الأحوال تكتب عنها مقالات وكتب، وتصدر عنها برامج أحزاب اشتراكية، ولكن أن يصير الأمر عالميا، فمعناه أن يصل إلى ضمير كل إنسان في لوحة إنسانية، ليس فيها أبطال من السياسة أو الاقتصاد، أو حتى الفن، وإنما كلها من الناس «العاديين». مثل ذلك ليس لدينا منه في العالم العربي الكثير، وربما عشنا مع الهنود أو غيرهم، أو جرت التجارة والاستثمارات مع كل قارات العالم، ولكن الحواجز تبقى مرتفعة، ربما أكثر من أي مكان في العالم. وفي القاهرة وعواصم عربية أخرى، نجد أن أحدا لا يريد تصوير الفقر، وتبدو مشاهد دبي دائما لامعة، ولا يعرف أحد الكثير عن فقراء الدار البيضاء. وعندما يسود الخجل والإحساس بالعار، فإن القضايا الكبرى كثيرا ما تختفي تحت السجاد، وفي كل الأحوال نفقد بعضا من إنسانيتنا.

ولكن الفقر والفقراء كانا مجرد أمثلة، ولكن رسالة هوليوود العالمية كانت حقا «التنوع» والقبول به والتعايش معه، ولا أدري شخصيا هل كان انتخاب باراك أوباما سببا في ذلك، أم أن انتخابه كان نتيجة الرفض، لمحاولة «قولبة» العالم، التي حاولها جورج بوش. ولكن أيًّا كان الأمر، فإن التنوع لم يعد فقط واقعا من حيث اللون، الذي كان تقليديا في الأفلام الأميركية، ولكن فيلم «جراند بونتى» فرض على شخصية أميركية محافظة للغاية أن تتأمل مع أسرة غارقة في آسيويتها، لكي يكتشف كلاهما إنسانيته. إلا أن التنوع الأكبر قام على حالة افتراضية في ذلك «العالم المحير لبنجامين بوتين»، الذي جعل إنسانا يعيش في عكس الزمن، حيث ولد طفلا في الثمانين من عمره، وبعد ثمانين عاما صار طفلا، وعند موته كان لم يولد بعد!. ولم تكن البطولة هنا للشخص «الافتراضي»، ولكن على قدرة مجتمع بأسره، فيه من السود والبيض والصُّفر الكثير، التعامل مع حالة مستحيلة. وطوال عرض الفيلم كان العالم العربي كله «محيرا» بنفس الدرجة، حيث ولد كبيرا في ظل حضارة عربية وإسلامية عظيمة، ولكنه انتهى متمتعا بقدر هائل من الطفولة القومية واليسارية، وحتى الإسلامية أيضا، إذا جاز التعبير، حيث تسقط القيم الكبرى، والمقاصد السامية أسيرة الغرائز والانفعالات الوقتية والشعارات المثيرة.

ولكن إذا تجاوزنا هذه المقاربة، فإن فضيلة التنوع والقبول به لا تبدو فضيلة عربية على الإطلاق، ومن يظن أن الصراع العربي الإسرائيلي على أهميته ومركزيته هو أكثر الصراعات العربية تكلفة من الناحيتين المادية والإنسانية، فإنه يخطئ كثيرا، لأنه أكثرها تكلفة جرى مع الآخر المختلف داخلنا، وكانت الحرب وحشية في كل حالاتها. ولكن خارج الحروب، فإن الآخر كان منسيا، وهناك كثير من الدول العربية تخجل من وجود أقليات بها دينية أو عرقية، وفي أحوال كثيرة كنا نسمع من مثقفين عرب عن روابط عضوية غير قابلة للانفصام. والغريب في الأمر أن «الموزاييك» كان دائما فنا عربيا أصيلا قائما على تكامل الألوان والأمزجة والقطع الصغيرة من صخور قاسية تصير بهجة للقلوب ونشوة للعقول حينما تصير لوحة كاملة.

ما الذي جرى للعالم العربي وجعله عاجزا عن قبول التنوع؟. هو سؤال للبحث، وربما كان له علاقة بالانضباط الأخلاقي، حيث يكون هناك اعتراف بعدم الكمال الإنساني، وحالته دائما إلى الاكتمال عن طريق آخرين. وسواء نظرت إلى فيلم «القارئ»، حيث ينظر المجتمع الغربي مرة أخرى إلى ذاته التاريخية بتساؤلات حول النازية، فإنه لا يخشى أبدا من فضح أجهزة الأمن والشرطة في فيلم «البديل»، التي عملت خلال العشرينات من القرن الماضي، كما تعمل كل أجهزة الشرطة في العالم الثالث، من خلال التلفيق والتهديد الذي يصل إلى فبركة التعامل مع الجريمة، وإدخال صاحبة الحق إلى مستشفى للأمراض العقلية. كم مرة جرى ذلك في العالم العربي؟، صحيح أنه جرى بعض منه في السينما المصرية لاستكشاف أمراض عصر بائد، ولكنها نادرا ما تعاملت مع أمراض عصر حاضر.

وبالتأكيد فإن «هوليوود» وأفلامها لديها الكثير من «القمامة» الفنية المستهدفة للغرائز تارة، والطامعة في المكسب السريع في كل الأوقات، ولكنها في هذا العام قامت بنقلة جديدة موحية وحائرة في آن واحد، كما هو جدير بلحظات الاكتشاف الكبرى لعوالم جديدة صارت كلها جزءا من عالم واحد. وربما لم تكن هناك صدفة أن بعضا من أفلامها عادت إلى أصول القيم التي لها علاقة بالأسئلة الأساسية للحرية والمسؤولية والاختيار. وفي مسرحية شكسبير «تاجر البندقية» كان التاجر يريد رطلا من لحم الرجل سدادًا لدينه، ولكن في فيلم «سبعة أرطال» قرر الرجل ذاته تسديد ديونه بتوزيع أجزاء جسده إلى المحتاجين إليها، لأنه يتحمل المسؤولية عما جرى لأشخاص في حادث سيارة، حيث ضاعت زوجته، وكان عليه اللحاق بها. مثل هذه الأسئلة، وبالذات عن المسئولية، تعود بنا إلى العالم العربي وأصول الحيرة والاضطراب فيه، حيث لا يبدو أحد مسؤولا عن شيء، ومن الممكن لك أن تشعل حربا، وتحصل على هزيمة، وتشرد شعبا كاملا، وتوزع الفقر بالعدل والقسطاس، وتصير بطلا في نفس الوقت. ومن الممكن أن تكون في ذيل التطور الإنساني، ولا تقدم شيئا للتقدم التكنولوجي العالمي، ولا تنقذ بشرا، ولا حتى تنقذ نفسك، ويمكنك التعايش مع المذابح في الصومال ودارفور ولبنان والجزائر، ولكنك سوف تلوم في النهاية كل أهل الأرض، إلا نفسك. إنها حالة محيرة فعلا!.