طرد الحرف العربي من شوارع المغرب

TT

يتميز المشهد اللغوي في المغرب بثلاث. الأمازيغية تتحرك، وهذا معقول ومقبول، والفرنسية تكتسح وهذا أمر مدبر بليل، والعربية تتلقى الضربات من كل صوب ومن كل صنف، وهذا أمر يتم في واضحة النهار.

أما أن تتحرك الأمازيغية في بلادها، لكي ينصف المتكلمون بها، ويتبوأ اللسان الأمازيغي ما يستحقه من مكانة في الإعلام، ويحصل المتكلمون به على نصيبهم في المجال الحقوقي، فهذا لا شك من العلامات الإيجابية للتطور السياسي والثقافي الحاصل في السنوات الأخيرة.

ولكن أن تحتل الفرنسية المجال كله في الحياة العامة، وأن يكون ذلك على حساب اللغة الرسمية، فهو شيء يدل على أن شيئا ما غير سوي يحدث في البلاد. وهو توجه عارم يحدث بشيء غير قليل من المغالاة والشراسة، وبمنطق إقصائي مستفز.

ينزل الوافد على المغرب، فيقطع عدة كيلومترات منذ خروجه من مطار محمد الخامس، لا يرى إلا لافتات إشهارية ليس فيها حرف عربي واحد، وكأنه في مدينة أسترالية. ويحدث ذلك بفعل فاعل. فهناك شركة إعلانات هي التي تنشر هذا التلوث البصري وتصر عليه. وهي تتصرف في الملك العام تصرف المالك المطلق، لا يردعها قانون ولا يحد من جسارتها أي اعتبار. وهناك قانون يفرض على مثل هذه الشركة أن تحصل على ترخيص باستعمال العبارات والصور التي تفرضها على أعين المارة. وهناك من يسلم لها بذلك عن طيب خاطر أو عن مصلحة. والنتيجة أنها تزداد إمعانا في تغيير هوية الشارع المغربي، بجسارة ليس عليها من مزيد. ويكاد هذا المظهر يعطي انطباعا بأن أهل البلاد غادروها، وحل بها جنس آخر، أو أن المغاربة قرروا سلخ جلدهم.

وليس هذا هو المظهر الوحيد الذي يبين الحد الذي بلغته سيطرة الفرنسية في السنوات الأخيرة بالمغرب. بل إن تلك السيطرة انتشرت مثل الآفات، ويجسم ذلك الانتشار تحديا لا يمكن تحمله باستسلام كشيء طبيعي. فليس طبيعيا أن يحدث ما يحدث وأن يستمر وكأنه قدر محتوم.

وإذا كان تفسير ما كان يحدث من عبث في السياسة إلى عهد قريب، بأنه كان بفعل حزب سري، كان يدبر الأمور في زمن الرصاص، ففي هذا الزمن هناك إلى جانب ما نعلم حزب علني لا ترده شكوى، ولا يثنيه شيء عن أن يلقي في روع كل من لم يفهم بعد، أن البلد قد تغير جلده، وأن المغرب انتقل من بلد مزدوج اللغة، إلى بلد له لغة وحيدة هي الفرنسية.

يحدث هذا وكأن أهل البلاد هاجروا وحملوا معهم قوانينهم التي تلزم صاحب أي إنتاج معروض في الساحة العمومية، إعلانا كان أو لوحة تجارية، بأن يطلب ترخيصا من رئيس المجلس الجماعي في المدينة أو القرية. وما يحدث هو أن كل رئيس من هؤلاء ينظر بعين من البلاستيك إلى القرارات المعروضة عليه قصد التوقيع فينسى واجبه ويوقع، ويوقعنا معه في ما هو حاصل. لقد اكتسحت الفرنسية بالإضافة إلى الفضاء العمومي كل الاجتماعات والندوات. وكل ملف في أي اجتماع مصمم على أنه يتم تناوله من اليسار إلى اليمين. وما من بناية رسمية يتم استحداثها، أو نقلها من مكانها، أو ترميمها إلا وكان أبرز ما تتميز به هو أن لا يظهر حرف عربي واحد في واجهتها. وقد اختفت لمدة عبارة «الشرطة» من الصدرية التي ترتديها فرقة من عناصر الأمن، واكتفي في تلك الصدرية فقط بمفردة مكتوبة بحروف لاتينية هي «بوليس». وهناك أحياء بكاملها في الرباط الجديدة لا تجد فيها حرفا واحدا بالعربية في واجهات المتاجر والمقاهي والمطاعم. وهذا ليس راجعا للصدفة كما يجب أن نؤكد، بل وراءه إرادة وقرار ومنطق انقلابي يهدف إلى إحداث أمر واقع هو مسح الحرف العربي نهائيا من شوارع المغرب. ومنذ بعض الوقت أخذنا نرى في مقبرة الشهداء الأعيان في الرباط عبارات مكتوبة بالفرنسية في شواهد القبور. وهي رطانة لو علموا غير مقبولة في موطن نودع فيه الموتى بلسان عربي مبين.

يحدث هذا أمام تكاسل واستهانة جماعيين. فقد وجهت لنا شركة «اتصالات المغرب» في يوم ما استفسارا عما إذا كان الزبناء يرغبون في أن تصلهم الفواتر بالعربية أو الفرنسية، وحدث أن عدد الذين أجابوا على الاستفسار، أو عدد من اختاروا العربية، كان من القلة إلى درجة زهدت الشركة في أن تتمسك بعرضها، واستمرأت أن تظل فوترتها بالفرنسية.

ولا يستبعد أن يكون وراء ذلك التكاسل أن مسألة اللغة لم تعد تثير في الناس حمية، أو أن الشاعرين بالمغص عددهم أصبح قليلا ولا عبرة بوزنه. والحاصل أن هناك إهمالا للمسألة من لدن الجمهور. وبعض الدعاوى التي رفعت أمام القضاء لفرض الاحترام اللازم للغة الرسمية بقيت بلا عواقب. وهناك فتور من لدن القائمين على تطبيق القوانين، وهناك أخيرا نوع من المهاترة أخذت تكتنف الخوض في مثل هذه الأمور.

وقد كان البعض قبل بعض الوقت يتذرع بالتقنيات لتبرير استعمال اللغة الفرنسية، ثم استعملت مزايدات حزبية وحجج عنصرية وأساليب عديدة متنوعة، للحفاظ على تفوق الفرنسية. والحال أن الفرنسية تستعمل لغايات بسيطة وأولية مثل عرض سيارة للبيع أو التنبيه إلى أن مصعد العمارة معطل. وهل من التكنولوجيا في شيء تعويض كلمة مرحاض بمفردة من الفرنسية لمرفق تدل عليه رائحته ولا حاجة للتشوير عليه بأي لغة.

إن التذمر الذي يثيره هذا الاكتساح المغالى فيه للفرنسية يرجع إلى أنه يكسر التوازن الذي لابد من احترامه، في بلد له تاريخه وله كرامته. ولابد من حفظ المكان والمكانة اللازمتين للغة الرسمية، الأمر الذي لا يتعارض مع الحضور الفرنسي اللغوي والثقافي الذي أصبح من مكونات رأس المالي الثقافي والسياسي المعاصر للمغرب.

فقد راكم المغرب من خلال الاحتكاك الذي حدث له مع الفرنسية لغة وثقافة، عبر عقود من الزمن في القرن الماضي، رصيدا تملي المصلحة أن يصان وأن ينمى. لأن هذا الرصيد أهل المغرب للقيام بدور نشيط في حظيرة المتوسط. وهو دور تساعد عليه الإسبانية بكيفية تكميلية. كما أن ذلك الرصيد المتراكم يؤهله للقيام بدور ملموس في إفريقيا الناطقة بالفرنسية. وهذا شيء مقبول بل مطلوب. ثم إنه أصبحت لنا مع فرنسا أواصر حميمية نشأت عنها انشغالات مشتركة معها. ومن ذلك أن كل ما تصنعه فرنسا في واجهة الدفاع عن التنوع اللغوي في عالم ينجرف نحو الأمركة، يفيدنا نحن لنفس الحجج التي تستعمل هي في معركة «الاستثناء الثقافي»، لكي ندافع عن خصوصيتنا العربية الأمازيغية الصحراوية الإفريقية.

إن الفرانكوفونية ليست هي المشكلة. وقد اختارني الرئيس عبده ضيوف الأمين العام لمنظمتها ضمن فريق يدافع عن التنوع الثقافي في العالم. المشكلة هي مع رهط من المغاربة تنعدم عندهم الضوابط، ويريدون أن يفرضوا علينا بعقلية انقلابية ميولهم ومزاجهم، وفهمه العبيط للانفتاح.

وقد آن لهذه الرعونة أن تتوقف. إن هذا السلخ الذي يحدث بإبعاد الحرف العربي من الشارع المغربي، يتناقض جذريا مع مشاعر الشعب المغربي، الذي خرج دائما في مسيرات مليونية، بالذات ثلاث مرات في العقد الحالي، كلما تطلب الأمر أن يعبر المغاربة عن عاطفتهم وانتمائهم.