العراق والكويت.. التصافي!

TT

في ما بين الدول لا يُقال ولا يُقاس: «الجار قبل الدار»! فاختيار المنزل غير قدرية حدود الدولة! ولا مفرّ من تجنب العاصفات، التي تبدأ بتكور الصغائر، لتعطي عذراً للمجازفين بالدماء والثروات! هذا ما حصل مع إيران، ثم الكويت! ولا تعوض الأرواح بذهب الأرض وفضتها! وما بين العراق والكويت تداخل قديم وعميق منذ الكاظمة حيث الاسم العتيق للمكان، والحركة كانت دائبة مع اختلاف المذاهب.

شاهدي رسالتان، بخط اليد، بعثهما مبارك الصباح (ت 1915)، السُنَّي إلى شيخ بني أسد الشيعي. ذلك في محنة والد سالم الخيُّون مع كاظم باشا صهر السلطان العثماني لما أخرجه من الأهوار (1893) إلى ضفاف إيران (أربعة قرون...). جاء في إحداهما (1902): «إلى حسن الخيُّون، أول السؤال عن عزيز خاطركم... أخي أنت اليوم رئيس عشيرة، ما ينسب لك الكعدة عند العجم (وفي الثانية قال: لا يغرونك وترجع إلى دولة العثماني). فعاد حين وصول خطنا هذا إليك توكل على الله وتجي لطرفنا مع جميع عشيرة الذي عندك... عندنا أسلحة موزر ومارتين من إنكلتره، كذلك جميع ما يكفي إلى عشيرتك عندنا موجود، وعاد يا أخي منكم الأمر ومنا الطاعة، المشتاق مبارك الصباح. 18 جمادي الأولى، سنة 1320».

أقول، وشاهدي ما تقدم، ليس الطابع الشيعي لسلطة العراق اليوم هو المانع في تبادل الثقة مع دول الجوار السُنَّي، وهذا ما يحاول به الكثيرون تفسير الجفاء والمناكفة بين إيران وجاراتها مثلا! وإذا انتهينا من الطائفية، حيث الشرُّ كل الشرِّ عندما يوقد الصراع بحطبها! فما عداها كان ألين عريكةً.

كانت أول زيارة لعاهل كويتي، أحمد الصباح، للعراق 1935، وكررها 1936، حيث أسفرت الثانية عن «اتفاق شرف مع الكويت لمنع التهريب» (فرج، الملك غازي، عن ملفات البلاط). وحينها لمح الشيخ للملك غازي (قُتل 1939) بما كان من ودٍ مع والده فيصل الأول، للحيلولة دون تطور الأحداث، وكان ذروتها تحرك الملك الشاب من «إذاعة قصر الزهور» للمطالبة بضم الكويت. بل حَضرَ لعمل عسكري، إلا أنه خضع لاعتراض الساسة، حيث يرونها مغامرة حمقاء.

بعد ثورة 14 تموز، وصل وفد كويتي للتهنئة، ولعله من المناوئين لبريطانيا، ومن الذين أغرى موقفهم غازي آنذاك، وكانت تُسمع على ألسن كويتية، ضد الإنكليز: «طبوا وطنه.. يا غازي تعال شوف.. طبوا وطنه»! هذا ما سمعته من كويتي طاعن بالسن! إلا أنه بعد استقلال الكويت (1961) أخذ عبد الكريم قاسم بالمطالبة، حتى شاعت أغنية الثنائي، جواد وادي وعبد الواحد جمعة عبر الإذاعة: «الكويت كَاعي.. ولي حق برجوعه»! ولما سأل الصحفي الفرنسي عبد الكريم عن سبب عدم اجتياح الكويت أجاب: «أنا لستُ فاشستياً» (مجلة أصوات، عن لوموند الفرنسية 5 شباط 1963). ويومها أنزل الحزب الشيوعي العراقي تظاهرة شجباً لأي عمل عسكري، ويقترح الاستفتاء! وما هي إلا سنوات حتى جاء مَنْ لم يسلم من أذاه لا الجار ولا الدار! ومن المضحكات أن بياناً لسلطة البعث علل الغزو بإعادة الديمقراطية للكويتيين!

مع أن الحياة البرلمانية مؤصلة بالكويت قبل ولادة (القائد الضرورة) بكثير. ومن طريف ما قرأته ليعقوب يوسف الإبراهيم، في «العلاقات الكويتية الفرنسية»، أنه لا يستبعد تأثر جان جاك روسو (ت 1778) بما كان بين صباح الأول (ت 1743) ومَنْ نزل معه تلك الديار، ومفاده: «السمع والطاعة للحق واتباع الشورى» (الشمري، المستودع والمستحضر)! ودليل الإبراهيم أن ابن أخ الفيلسوف كان قنصلا لفرنسا بالبصرة، ثم لجأ إلى القرين (الكويت في ما بعد)، فلعله نقل لعمه ما شاهد من تجربة في الحكم!

تعرف الكويت، أن ما حصل كان نزوة شخص لا شعب، والعراق بدونه بدأ بدمل جراحه، ولا مندوحة من التصافي، فكلما كان العراق معافياً كان جاره مطمئناً. أقول هذا بعد أن أخذ الألم يعصر قلوب الذين كانوا أول مَنْ ملأ العواصم استنكاراً للغزو، وها قد أسقط الأبعاد الديون فكيف يتأخر الجار الجنب، والرفيق بالمحنة!

ختاماً، لعلَّ زيارة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي لبغداد، والتي وصفت بالتاريخية، تغلق ملفاً ظل مفتوحاً من ثلاثينيات القرن الماضي، حتى كارثة آب 1990. ولا يمنع من تكرارها سوى عراق جديد ديمقراطي موحد، فليس هناك أخطر من تجزئته، وألا يؤخذ في ضعفه وما آلت إليه أحواله! أقول: هناك مَنْ يتحين الفرصة ليرفع شعارات تُطرب الغوغاء! ومن هنا تأتي أهمية العون على استرداد العافية، ويدرك العقلاء أن مخلفات الماضي، من ديون وتعويضات باهظة، التي لا ناقة لأهل العراق فيها ولا جمل، أول المعوقات!

[email protected]