أصعب وظيفة في واشنطن

TT

يتسم مستشارو الأمن القومي بطباع متباينة. وعلى امتداد الأسابيع القليلة الماضية، حاولت واشنطن التعرف على طباع جيمس إل. جونز، الذي اختاره الرئيس أوباما لتولي مهام هذا المنصب. وتدور التساؤلات حول ما إذا كان جونز سيحرص على العمل بعيدا عن الأضواء على غرار برنت سكوكروفت، أم سيبدي شخصية متوهجة ومسيطرة مثل هنري كيسنجر، أم أنه سيشكل مرحلة وسطى بين النموذجين مثل ساندي بيرغر؟

وتعتمد الإجابة على هذا التساؤل، إلى حد كبير، على نمط العلاقة بين جونز ووزيرة الخارجية، هيلاري رودهام كلينتون، فربما تتميز العلاقة بينهما بالتناغم الكامل ـ ونشهد بذلك جنرال مشاة البحرية السابق يسير جنبا إلى جنب مع السيدة الأولى السابقة على نهج موحد إزاء السياسة الخارجية، أو ربما تتردى العلاقة بينهما إلى المشاحنات المعتادة بين مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية.

ومن أجل تفهم كيفية اندلاع الصراع داخل «فريق عمل من الخصوم»، علينا النظر إلى هذه المواجهات المشهودة: مكجورج بندي في مواجهة دين رسك في عهد الرئيس جون كينيدي، وكيسنجر في مواجهة وليام روجرز في رئاسة نيكسون، وزبيغنيو برزنسكي في مواجهة سيرس فانس في ظل إدارة كارتر. أما أكثر هذه المواجهات دموية على الإطلاق (بالنسبة للأمة، إن لم يكن العناصر الرئيسة المتورطة بها) فتمثلت في محاولة كوندوليزا رايس الاضطلاع بالتحكيم في المباراة الثلاثية بين كولين باول، ودونالد رامسفيلد، وديك تشيني.

من جهته، يتميز سكوكروفت، الذي تقلد منصب مستشار الأمن القومي في عهد رئاسة كل من غيرالد فورد، وجورج إتش. دبليو. بوش، بموهبة نادرة في البقاء بعيدا عن دائرة الضوء. ومع ذلك، عمل سكوكروفت بمثابة المشرف الأول على السياسة الخارجية، حيث تولى توجيهها بهدوء، مع السماح للآخرين بنيل الإشادة بدلا منه. والواضح أنه مثلما بدأ جونز يكتشف بالفعل، يعد منصب مستشار الأمن القومي الأكثر صعوبة في واشنطن، حيث يتطلب مزيجا من الحسم والعمل من وراء الكواليس. وحسبما أشار سكوكروفت من قبل، فإن مستشار الأمن القومي «ينبغي أن تتم مشاهدته بين الفينة والفينة، وأن يسمع صوته أقل من ذلك». في الوقت ذاته، يجب أن يفرض مستشار الأمن القومي النظام والتناغم في عمله.

من جهته، نوه جونز برغبته في العمل على نسق سكوكروفت، بمعنى العمل كـ«وسيط أمين» وتجنب التورط في حروب لفرض النفوذ مثلما حدث بالماضي. ورغم أن هذا القول يبدو جيدا، فإنه تكرر على لسان جميع مستشاري الأمن القومي في السنوات الأخيرة. والواضح أن منصب مستشار الأمن القومي، يشكل نطاق عمل تظهر به نزعات الغرور، وكذلك الأفكار العظيمة. كما أنه ينطوي على مخاطر كبرى، ورأى الكثير من مستشاري الأمن القومي أن القضايا المعنية تستحق القتال من أجلها.

حتى الآن، اجتذب جونز الأضواء بدرجة أكبر عما يقتضيه نهج سكركروفت المميز في العمل، حيث أعلن في 8 فبراير (شباط) عزمه تولي قيادة مجلس أمن قومي «مختلف تماما» عما كان قائما في عهد إدارة بوش. وطبقا لما كتبته كارين ديونغ، في «واشنطن بوست»، فإن جونز يخطط لتوسيع نطاق عمل المجلس ليشمل «القضايا المميزة للقرن الـ21 الممتدة إلى نطاق أكثر من وزارة، مثل الأمن على شبكة الانترنت والطاقة والتغييرات المناخية وبناء الأمة والبنية التحتية».

ولا شك أن هذه التغييرات ستشكل توسيعا هائلا في نطاق سلطة مستشار الأمن القومي، ذلك أن عدد الوزراء المشاركين في عضوية المجلس ذاته سترتفع، وكذلك بطبيعة الحال عدد العاملين تحت قيادة جونز. ويعد هذا التوسع خطوة، حال اضطلاع شخص آخر أقل قبولا عن الجنرال المتقاعد بها، لكانت ستوصف بأنها محاولة للاستحواذ على النفوذ. وتعتمد مسألة ما إذا كانت عملية إعادة تنظيم مجلس الأمن القومي تلك ستجري بسلاسة على الرئيس أوباما. وإذا راقت العملية لأوباما، ستتولى مهارات جونز في تيسير العمل الاضطلاع بالباقي.

وفي إطار جهود جونز لرسم ملامح منصبه الجديد، عليه أن يقرأ بتمعن التاريخ الحديث لمنصب مستشار الأمن القومي. في كتاب «في ظلال المكتب البيضاوي: لمحة عن مستشاري الأمن القومي والرؤساء الذين عملوا تحت قيادتهم ـ من جون فيتزغرالد كينيدي حتى جورج دبليو. بوش»، يجمع المؤلفان، إيفو دالدر وآي. إم. دستلر، بين معلومات دقيقة حول مهام هذا المنصب وطرح وجهة نظر خبيرة وحيادية. جدير بالذكر أن دالر كان عضو بفريق عمل مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس كلينتون، قبل الانتقال إلى معهد بروكنغز، بينما يعد دستلر خبيرا أكاديميا بشؤون الأمن القومي منذ أمد بعيد ويعمل بروفسورا بجامعة ماريلاند.

ويكشف الكتاب عن كافة السبل التي يمكن لسياسة الأمن القومي الجنوح من خلالها عن المسار الصحيح دون قصد، رغم توافر أفضل النوايا. علاوة على ذلك، ويوضح الكتاب، كيف أن دور مستشار الأمن القومي شهد فترات صعود وانحسار منذ إقراره عام 1961.

وعند استعراض من تولوا هذا المنصب، نجد أن مستشاري الأمن القومي المتميزين بالقوة والصراحة أمثال كسنغر، خلفهم آخرون هادئون ومتحفظون مثل سكوكروفت. كما أن الإدارات التي تمتع الوزراء خلالها بهيمنة كبيرة (وتعارض فيما بينهم)، مثلما كان الحال في ظل إدارة ريغان، خلفتها إدارات شهدت إحكام البيت الأبيض لقبضته على الوزراء، مثلما كان الحال في سنوات رئاسة كلينتون. في الوقت ذاته، تأرجح عدد فريق العمل بالمجلس بين الارتفاع والانخفاض، مع محاولة كل مستشار للأمن القومي التعامل مع شطحات سلفه. وتوحي هذه النظرة التاريخية بأنه في أعقاب مستشاري الأمن القومي الضعفاء نسبيا في ظل رئاسة بوش، نحن على وشك معاينة مستشار أمن القومي يتبع نهج كيسنجر. إلا أنه حتى الآن، لا تزال بصمة جونز داخل منصبه الجديد أقل قوة عما يقتضيه هذا النهج.

في الواقع، لقد شغل هذا المنصب مجموعة مثيرة من المسؤولين. وعبر كتابهما، يحملنا دالر ودستلر إلى البدايات في عام 1961، تحديدا بندي، عميد إحدى كليات جامعات هارفارد، الذي وقع اختيار كينيدي عليه لتولي مهام المنصب المستحدث بحيث يعمل «كمساعد خاص للرئيس فيما يتصل بالأمن القومي». وهدفت فكرة استحداث المنصب إلى تعزيز دور البيت الأبيض في عملية صنع السياسات، والحد من دور الوزراء.

وبسبب تأييد بندي للتصعيد العسكري الأميركي في فيتنام، باتت صورته لدينا الآن كشخص عديم الرحمة ومتغطرس. لكن الكاتبين يوضحان أن بندي شجع على عقد نقاش حر حول السياسات المتبعة، ساعد جون كينيدي على نحو كبير. أما جونسون، فلم يرق له أسلوب بندي الأكاديمي، واستبدله بوالت روستو، الذي تميز بقدر أكبر من المرونة، لكنه لم يقل في إصراره على المضي قدما في القتال في فيتنام عن بندي.

ثم جاء كيسنجر، في ظل رئاسة ريتشارد نيكسون، وهو مستشار ذكي، وإن كان مراوغا في بعض الأحيان. ومثل جونز، بدأ كيسنجر عمله بخطة لإصلاح مجلس الأمن القومي. وبالفعل، تمكن من جعل المجلس أكثر قدرة على العمل، وخلق «قنوات اتصال خلفية» سرية مع الاتحاد السوفياتي وفيتنام الشمالية والصين. وحتى اليوم، لا تزال الدبلوماسية السرية التي انتهجها نيكسون وكيسنجر، قصة مذهلة تقوم على الخداع الحميد. على سبيل المثال، من أجل خداع فريق العمل المعاون له بشأن زيارته السرية إلى بكين عام 1971، أصدر كيسنجر أوامره بتوزيع ثلاث مجموعات من المذكرات الموجزة على العاملين معه. وسيكون من الحكمة أن يضفي جونز مثل هذه الصبغة المكيافيلية على خطط أوباما للتعامل مع إيران.

وكان فريق العمل المعاون لكيسنجر على دراية تامة بهوية العدو الحقيقي ـ وزارة الخارجية! يذكر أنه كان يجري عمدا حجب روجرز، وزير الخارجية آنذاك، عن القرارات الحيوية. أما لجنة المسؤولين الوزاريين المعنية بمجلس الأمن القومي السابقة فقد تم تحييدها. وعقدت اللجنة ثلاثة اجتماعات فقط خلال عام 1972. في تلك الأثناء، تنامى عدد فريق العمل المعاون لكيسنجر، حيث ازداد بنسبة تجاوزت 80 في المائة، بين عامي 1969 و1970. وأحيط عمل الفريق بسرية بالغة، دفعت رئيس هيئة الأركان المشتركة لزرع جاسوس داخل الفريق المعاون لكيسنجر للتعرف على ما يدور هناك.

وعندما أصبح كيسنجر وزيرا للخارجية عام 1973، احتفظ بمنصب مستشار الأمن القومي، بينما ترك مسألة الإدارة اليومية لمجلس الأمن القومي لنائبه، سكوكروفت. وبالفعل، أثبت جنرال القوات الجوية المتقاعد كفاءته كبيروقراطي محنك. وتقلد عام 1974 منصب مستشار الأمن القومي، وظل فيه خلال رئاسة فورد.

ويعتقد دالدر ودستلر أن سكوكروفت «ربما يعد أفضل مستشاري الأمن القومي الرئاسيين». واستشهدا بتصريح له يوجز سر نجاحه، أدلى به خلال إحدى الندوات عام 1999، حيث قال: «إذا لم تكن وسيطا أمينا، لن تحظى بثقة الأعضاء الآخرين بمجلس الأمن القومي، وبذلك لن يعمل النظام، لأنهم سيلتفون من ورائك ليصلوا إلى الرئيس، وبذلك ستتسبب في تمزيق النظام».

بعد ذلك جاء برزنسكي، وهو أكاديمي سابق يتمتع بالذكاء، يتبع نهج كيسنجر. وحظي برزنسكي على صلة وثيقة برئيسه، جيمي كارتر. أما النقطة السلبية التي مني بها فتمثلت في الصعوبة، التي جابهت كارتر في الاختيار بين آراء برزنسكي الصقورية، وآراء فانس، وزير خارجيته، الأكثر ميلا للمصالحة فيما يتصل بقضايا السيطرة على الأسلحة، والتفاهم مع الاتحاد السوفياتي، والثورة في إيران. وتمخض ذلك عن معركة حامية ومستمرة حول السياسات، دفعت فانس في النهاية إلى الاستقالة.

في الواقع، كان برزنسكي محقا في تحذيراته من أخطار الثورة الإيرانية والسياسة السوفياتية العدائية، التي بلغت ذروتها في احتلال أفغانستان. وقد صاغ برزنسكي بدايات التحالف مع الصين وباكستان والثوار المجاهدين، الذي أدى في نهاية الأمر إلى هزيمة موسكو داخل أفغانستان. إلا أن دالدر ودستلر خلصا إلى أن برزنسكي «تحرك بدافع قوي من رغبته في صياغة جوهر السياسة.. مما أدى إلى تقليص دوره الأساسي في إدارة العملية».

وجاء ريغان ليتضاءل في عهده عدد العاملين تحت قيادة مستشار الأمن القومي، وذلك لرغبته القوية في تقليص دور المستشار. وبلغ إجمالي عدد مستشاري الأمن القومي في عهد ريغان ستة، بينهم الاثنان اللذان تورطا في فضيحة إيران ـ كونترا، روبرت سي. مكفرلين، والأدميرال جون بويندكستر. والواضح أن ريغان سعى لخلق مناخ عام من التناغم داخل إدارته من خلال تقليم أظافر المستشارين، لكن بدلا من ذلك، ُني بمشاحنات بين وزيري الخارجية والدفاع القويين، جورج شولتز، وكاسبر واينبرغر.

تمت استعادة النظام عام 1989 بعودة سكوكروفت، المتميز بقدرته على تيسير العمل، في ظل إدارة بوش الأول. خلال تلك السنوات، تعامل سكوكروفت بهدوء مع انهيار الاتحاد السوفياتي وهزيمة العراق في حرب الخليج. كما نجح بدرجة كبيرة في خلق هيكل حديث لمجلس الأمن القومي، ما زال قائما حتى اليوم، مع تشكيل «لجنة نواب» تضطلع بالإدارة اليومية للأزمات، و«لجنة رؤساء» من الوزراء لاتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى.

وكان لدى إدارة كلينتون اثنان من المستشارين، حاولا محاكاة نموذج سكوكروفت، وهما: أنتوني ليك، وبيرغر. لم تشهد هذه الفترة إبداعا كبيرا من قبل مجلس الأمن القومي. ومع ذلك، يتعين على جونز دراسة «القواعد الأربع»، التي وضعها بيرغر «لتجنب القضاء على بعضنا بعضا» في إطار المعارك بين الوزارات والوكالات المختلفة. وقد ورد ذكر هذه القواعد في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عام 1998، (في وقت كان بيرغر يحاول التنسيق مع وزيرة الخارجية كثيرة التجوال، مادلين أولبرايت). وتضمنت القواعد: «عدم إطلاق نيران صديقة» و«عدم الاعتماد على المؤتمرات الصحافية في إتباع سياسات».

وأخيرا، نصل لإدارة بوش الثاني. وقد رسم دالدر ودستلر صورة بالغة السوء لفترة عمل رايس مستشارة للأمن القومي، حيث أشارا إلى أن ديك تشيني، خلق ما يمكن اعتباره فريق عمل خاص به معني بالأمن القومي داخل مكتب نائب الرئيس، في الوقت الذي رفض رامسفيلد، بصورة رئيسة تنفيذ سياسات لا يتفق معها. وعجزت رايس عن تسوية تلك الخلافات، ولم يتدخل رئيسها، جورج دبليو. بوش بحسم لمساعدتها في ذلك. ويعتقد المؤلفان أن أداءها كان أفضل في منصب وزيرة الخارجية.

أما قصة النجاح غير المحتملة، التي ينتهي بها الكتاب فتتمثل في ستيفن هادلي، الذي عمل مستشارا للأمن القومي خلال الفترة الرئاسية الثانية لبوش. ويبدو أن هادلي، الذي يتجنب جذب الأضواء إليه، أدرك جيدا أن حرب العراق تشكل قضية حاسمة في فترة رئاسة بوش. ورغم تحذيرات كبار المسؤولين العسكريين وغالبية أفراد النخبة المعنية بالسياسة الخارجية، صاغ هادلي في هدوء عملية المراجعة التي تمخضت عن قرار بوش بزيادة أعداد القوات الأميركية في العراق، الذي ساعد في تحقيق الاستقرار هناك. وتبعا لتعبير الكاتبين، فإن هادلي بذلك حقق ما لم تتمكن رايس قط من إنجازه، ألا وهو: «مراجعة للخيارات المتعلقة بالسياسة تقوم على الواقع».

في نهاية الأمر، يتضح أن نجاح مستشار الأمن القومي في مهمته تعتمد على علاقته بالرئيس. ورغم أن كلا من جونز وأوباما ينتميان إلى فئة عمرية وخلفية مختلفة، فإن كليهما يفضل، على ما يبدو، العمل بعيدا عن دائرة الضوء وبتأن، ويشتركان في الميل لمراجعة السياسات المتبعة. (يذكر أنه خلال شهره الأول في المنصب الجديد، أجرى جونز ثلاث مراجعات للسياسات المتبعة ـ تجاه العراق وإيران والمنطقة الأفغانية ـ الباكستانية). ورغم أنه من الصعب تخيل تنمية جنرال مشاة البحرية السابق وبروفسير القانون السابق لنمط علاقة وثيقة على غرار تلك التي قامت بين برزنسكي وكارتر أو سكوكروفت وبوش، فإن الوقت وحده هو القادر على طرح إجابة حاسمة لهذا الأمر.

*الكتاب الجديد: «في ظلال المكتب البيضاوي: لمحة عن مستشاري الأمن القومي والرؤساء الذين عملوا تحت قيادتهم ـ من جون فيتزغرالد كينيدي حتى جورج دبليو. بوش»

تأليف: إيفو إتش. دالدر وآي. إم. دستلر

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»