تكريم لمحافظ البنك المركزي السوداني

TT

خشي الكثير من السودانيين أن تلقي الأزمة المالية العالمية بظلالها على النظام المصرفي والمالي السوداني، مما يشكل عبئا جديدا على الاقتصاد السوداني، ولإزالة هذه الخشية عمل ويعمل الدكتور صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان المركزي مع فريقه جاهدا على تفادي تداعيات هذه الأزمة المالية العالمية على النظام المصرفي والمالي في السودان، وذلك بتخفيف الأضرار الناجمة عن هذه الأزمة، من خلال بعض الإجراءات المالية الحازمة في هذا الخصوص. ولم تكن هذه المشكلة هي الأولى التي تواجه الدكتور صابر منذ توليه مسؤولية إدارة بنك السودان المركزي. ولقد كانت له إنجازات عظيمة سجلت له بأحرف من نور في تاريخ البنك المركزي السوداني.

وعند توليه قيادة البنك المركزي عام 1993 كان الاقتصاد السوداني يعاني من علل خطيرة، أولاها التضخم الفائق الذي وصلت نسبته إلى 160%.. وانخفاض سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار مع استمرار التدهور.. تلك العلل كانت نتيجة حتمية للسياسات الاقتصادية الخاطئة من أولئك الذين تولوا إدارة الاقتصاد السوداني في وزارة المالية والبنك المركزي تمثلت في الاستدانة من النظام المصرفي دون ضوابط ودون حدود، حيث عمل الدكتور صابر مع الدكتور عبد الوهاب عثمان وزير المالية وقتذاك، ونجحا في السيطرة على التضخم وفي وقف التدهور في سعر صرف الجنيه السوداني.

وكان النظام المصرفي السوداني في شبه انهيار. وعزف رجال الأعمال عن إيداع أموالهم في البنوك، وذلك لسببين الأول أن وزارة المالية أمرت إدارات البنوك بكشف حساب عملائها لسلطات الضرائب. والسبب الثاني تجميد حسابات المودعين وعدم السماح لهم بالسحب منها إلا في حدود لا تفي حتى لشراء ضرورات الحياة المعيشية. فعند نهاية هذه الأزمة آثر aالمودعون النأي عن إيداع أموالهم في البنوك واهتزاز الثقة في النظام المصرفي، تعتبر من أعظم الأمور وأكثرها تعقيدا وإعادتها تحتاج لوقت وصبر وعمل دؤوب، انبرى له الدكتور صابر ولعله لقي فيه نجاحا مقدرا.

وبرؤية مستقبلية تستشرف آفاق مستقبل العمل المصرفي والمالي في السودان، أنشأ الدكتور صابر مبنى جديدا ليكون مقرا للبنك المركزي السوداني بتكلفة تزيد على الخمسين مليون دولار، حيث أصبح هذا المبنى، معلما معماريا لمدينة الخرطوم، وذلك رغم الانتقادات الكثيرة ضد إنشاء هذا المبنى، وذلك لقناعة راسخة لديه بمكانه البنك المركزي كشيخ للبنوك التجارية في السودان، وكمقر لبنك مركزي في دولة تستشرف عهد استغلال البترول، وتستقبل وفود المستثمرين الأجانب، الذين كان يتم استقبالهم في مبنى متواضع لا يترك لديهم انطباعا طيبا يقنعهم بالإقدام على الاستثمار في السودان.

وقد شهد عهد الدكتور صابر توقيع اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي تنص على قيام نظام مصرفي مواز في الجنوب يتعامل بالفائدة المتعارف عليها، وتنص كذلك على طبع عملة جديدة يعود فيها الجنيه السوداني مجددا، بعدما استبدل بالدينار في وقت سابق، ونجح الدكتور صابر في طباعة العملة رغم عدم وفاء المانحين بالعهود، التي قطعوها على أنفسهم بتمويل هذه العملية. هذا النجاح لقي الإشادة حتى من الحركة الشعبية، ورغم التعثر الذي لازم تطبيق النصوص الأخرى في اتفاقية السلام الشامل.

ومن الناحية الإنسانية، أولى الدكتور صابر عناية فائقة بموظفي البنك المركزي السابقين، الذين يتقاضون معاشا لا يكاد يفي بضروريات الحياة، فضاعف لهم المعاش واستحدث لهم خدمات أخرى كالرعاية الصحية وغير ذلك.. أما محافظو البنك السابقون، فقد حصلوا منه على الاحترام والتقدير اللائق بهم، وأشركهم جميعا في لجنة استشارية لمحافظ البنك، تجتمع بصفة دورية وتخرج بتوصيات صقلتها الخبرة والتجربة يستفيد منها محافظ البنك المركزي.

وفي مجال الصيرفة الرقمية كان جهده واضحا ومثمرا، فأدخل المقاصة الإلكترونية للمصارف فأصبح الشيك يدخل حساب المستفيد لحظيا بعد أن كانت هذه العملية تستغرق ثلاثة أيام، وأدخل الصراف الآلي لأول مرة في السودان وأصبح بوسع العميل سحب النقد على مدار 24 ساعة والاطلاع على الرصيد كذلك، وقريبا سوف يتم التعامل ببطاقة الائتمان لشراء السلع والخدمات بدلا من التعامل بالنقد.

وانتبه الدكتور صابر لأهمية التوثيق، فوجه بأن يتكفل البنك المركزي بإصدار كتاب يوثق لمسيرة النقد والعملات عبر التاريخ، وأن يسرد تاريخ البنك المركزي والبنوك التجارية الأخرى، فصدر الكتاب بإشراف الصحافي الأستاذ محمد سعيد محمد الحسن، واحتوى على وثائق وصور نادرة منها صور للعملات المستخدمة في السودان عبر الحقب التاريخية المختلفة.

ولكل هذه الأسباب مجتمعة قررت جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، وهي جامعة سودانية رائدة، تكريم الدكتور صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان المركزي، عرفانا وتقديرا لإنجازاته في مجال حيوي يتصل بمعيشة أهل السودان، وذلك في إطار تفاعل هذه الجامعة مع المجتمع، إذ درجت على تكريم الرموز الذين كان لهم عطاء واضح في خدمة السودان والسودانيين. فقد حظي بتكريم هذه الجامعة من قبل الأستاذ الدكتور محمد طلبة عويضة (المصري الجنسية)، الذي عمل في السودان حينا من الدهر، وعاد إلى مصر يحمل حبا للسودان وأبناء السودان فقبل الآلاف من الطلاب السودانيين في جامعة الزقازيق التي أنشأها، ثم قامت جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا بتكريم البروفسور علي محمد شمو الخبير الإعلامي المعروف، الذي ترك بصمات لا تخطئها عين في مسيرة الإعلام في السودان وفي دولة الإمارات العربية المتحدة.

والدكتور صابر ولد في عام 1945 بمدينة دنقلا في شمال السودان، وهو ينتمي إلى العنصر النوبي، الذي يسكن في شمال السودان وجنوب مصر.. أسماه والده «صابر» إذ كان صديقا للدكتور محيي الدين صابر وزير التربية والتعليم في عهد الرئيس نميري.. وحصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد وماجستير ودكتوراه الاقتصاد من جامعة سيركيوز بالولايات المتحدة الأمريكية.

وعمل الدكتور صابر في التدريس بالجامعات السودانية. كما عمل مستشارا للمدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي لمدة سبع سنوات من عام 1983 وحتى عام 1990. وعندما قامت الحكومة السودانية باستدعائه للعمل في السودان، لم يتردد في الاستجابة وعاد للسودان، وعمل مديرا لبنك الخرطوم ووزيرا للدولة في وزارة المالية، ولكنه عمل كمحافظ لبنك السودان المركزي لأطول فترة في تاريخ البنك، وذلك لمدة تزيد على الثلاث عشرة سنة في فترتين، الأولى من عام 1993 وحتى عام 1996، والثانية من 1998 وحتى الآن، تخلل الفترتين توليه منصب وزير الدولة في وزارة المالية، أي من 1996 وحتى 1998.

*كاتب وأكاديمي سوداني