أبو مشعل

TT

سوف أروي لكم حادثة مفهومة ومهضومة، كمدخل أو مقدمة لحادثة أخرى غير مفهومة ولا مهضومة، وكلتا الحادثتين حقيقيتان وموثقتان، وأنا دائما مثلما تعرفونني لا أقول لكم غير (الصدق وقليل من الكذب).

الحادثة الأولى حدثت في بريطانيا بين الحربين العالميتين، وذلك عندما عرض ملاك فندق (الريتز) الشهير في باحة (البيكادلي) في لندن، مبلغ مليون جنيه إسترليني لشراء قصر اللورد (ويمبورن) المقابل بهدف التوسع، فما كان من اللورد إلا أن يبعث بخطاب يعرض فيه شراء الفندق بثمانية ملايين جنيه لأنه يريد أن يوسع حدائق قصره!!

طبعا حضرة جناب اللورد رفض عرضهم هذا عن قوة، ولكن ما رأيكم بمن لا يملك (شروي نقير) غير أرض كانت بعيدة عن العمران، وامتدت لها المشاريع وطوقتها من كل جانب، وأصبحت مثل (مسمار جحا)، بالنسبة لتجار يريدون أن يقيموا مشروعا متطورا يصرفون عليه مئات الملايين، ولا يمكن لذلك المشروع أن يكتمل طالما أن تلك الأرض في وسطه (مثل نزغة إبليس).

نسيت أن أقول لكم إن الذي يملك الأرض بدوي عجوز، ليس له من حيلة بالدنيا غير قطيع هزيل من الماعز يرعاها هو وأبناؤه.

وبدأت عروض التجار تنهال عليه لشرائها وهو يرفض، وكلما زادوا عليه بالسعر لإغرائه، كان يزداد رفضه أن يبيع، ووسطوا الكثير من معارفه، وألح عليه أبناؤه أن يبيع الأرض ليخرجوا من دائرة الفقر المطبقة علي حياتهم.

غير أن الشايب كان يزداد عناده وتشدده وتشبثه بأرضه، التي ورثها عن أبيه، إلى درجة أن أبناءه فكروا بالحجر عليه، وفعلا قدموا التماسا رسميا للجهات المسؤولة يطلبون ذلك، على أساس أن والدهم أصبح رجلا (مخرفا).

وعندما استدعاه المسؤولون، وناقشوه، إذا به رجل مكتمل العقل والذاكرة، وأخذ يروي لهم الحوادث التاريخية ويلقي عليهم قصائد الشعر، التي يحفظها ـ خصوصا الغزلية منها ـ عندها اعتذروا منه وسمحوا له أن يخرج، غير أنه رفض أن يغادر المكتب قبل أن يكتب وصيته أمامهم، ويكونوا هم شهودا عليها.

اخذوا يتضاحكون وقدموا له ورقة وقلما، فاعتذر منهم لأنه لا يقرأ ولا يكتب، وطلب من أحدهم أن يكتب ما يمليه عليه، وجاء بالوصية: أن الأرض لن تباع طالما أنه حي يرزق، وأنه قد حفر قبرا بها، ويريد أن يدفن فيها، وبعد أن يموت فإنه متبرع بها للجمعيات الخيرية، فبهت الجميع من وصيته هذه وحاولوا أن يثنوه قائلين: كيف تترك أبناءك عالة فقراء يتكففون الناس، فقال لهم: إذا كانوا رجالا فعليهم أن ينحتوا بالصخر، أما إذا لم يكونوا كذلك فإنهم لن يموتوا فيكفيهم حليب الماعز، أما عن أرضي فلن أبيعها، قال ذلك ثم بصم بإبهامه على الوصية، وأشهد الشهود عليها، ووضعها بجيبه وخرج يتوكأ على عصاه، وما زال المشروع التطويري لرجال الأعمال متوقفا، وهم ما زالوا يصبون اللعنات ليل نهار على الرجل حتى هذه الساعة.

وأحلى ما في الموضوع أن الذي روى لي تلك الحادثة قال لي: إن الرجل العجوز يكنى بأبي مشعل، عندها قلت له: (ونعم)، أرجوك دلني عليه، فعلّ وعسى أن أقنعه لكي أخرج من هذه الطبخة على الأقل بـ(2,5 في المائة) حق (السمسّرة)، فقال لي: «أحسن لك روح كل هوا (كان غيرك أشطر)».

[email protected]